و ( كم ) اسم للسؤال عن عدد مبهم فلابد بعده من تفسير وهو تمييزه . كما تقدم في قوله تعالى ( سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية ) في سورة البقرة . وتكون خبرية فتدل على عدد كبير مبهم ولابد من مفسر هو تمييز للإبهام . فأما الاستفهامية فمفسرها منصوب أو مجرور وإن كانت خبرية فمفسرها مجرور لا غير ولما كان ( كم ) اسما في الموضعين كان له موقع الأسماء بحسب العوامل رفع ونصب وجر فهي هنا في موضع مفعول أو مفعولين ل ( يروا ) . و ( من ) في قوله ( من قبلهم ) ابتدائية لتأكيد القبلية . وأما ( من ) في قوله ( من قرن ) فزائدة جارة لمميز ( كم ) الخبرية لوقوع الفصل بينها وبين مميزها فإن ذلك يوجب جره ب ( من ) كما بيناه عند قوله تعالى ( سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ) في سورة البقرة .
والقرن أصله الزمن الطويل وكثر إطلاقه على الأمة التي دامت طويلا . قال تعالى ( من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ) . وفسر القرن بالأمة البائدة . ويطلق القرن على الجيل من الأمة ومنه حديث " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " . ويطلق على مقدار من الزمن قدره مائة سنة على الأشهر وقيل : غير ذلك .
وجملة ( مكناهم ) صفة ل ( قرن ) . وروعي في الضمير معنى القرن لأنه دال على جمع .
A E ومعنى ( مكناهم في الأرض ) ثبتناهم وملكناهم وأصله مشتق من المكان . فمعنى مكنه ومكن له وضع له مكانا . قال تعالى ( أو لم نمكن لهم حرما آمنا ) . ومثله قولهم : أرض له . ويكنى بالتمكين عن الإقدار وإطلاق التصرف لأن صاحب المكان يتصرف في مكانه وبيته ثم يطلق على التثبيت والتقوية والاستقلال بالأمر . ويقال : هو مكين بمعنى ممكن فعيل بمعنى مفعول . قال تعالى ( إنك اليوم لدينا مكين أمين ) فهو كناية أيضا بمرتبة ثانية أو هو مجاز مرسل مرتب على المعنى الكنائي . والتمكين في الأرض تقوية التصرف في منافع الأرض والاستظهار بأسباب الدنيا بأن يكون في منعة من العدو وفي سعة في الرزق وفي حسن حال قال تعالى ( إنا مكنا له في الأرض ) وقال ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة ) الآية . فمعنى مكنه : جعله متمكنا ومعنى مكن له : جعله متمكنا لأجله أي رعيا له مثل حمده وحمد له فلم تزده اللام ومجرورها إلا إشارة إلى أن الفاعل فعل ذلك رغبة في نفع المفعول ولكن الاستعمال أزال الفرق بينهما وصير مكنه ومكن له بمعنى واحد فكانت اللام زائدة كما قال أبو علي الفارسي . ودليل ذلك قوله تعالى هنا ( مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) فإن المراد بالفعلين هنا شيء واحد لتعين أن يكون معنى الفعلين مستويا ليظهر وجه فوت القرون الماضية في التمكين على تمكين المخاطبين إذ التفاوت لا يظهر إلا في شيء واحد ولأن كون القرون الماضية أقوى تمكنا من المخاطبين كان يقتضي أن يكون الفعل المقترن بلام الأجل في جانبهم لا في جانب المخاطبين وقد عكس هنا . وبهذا البيان نجمع بين قول الراغب باستواء فعل مكنه ومكن له وقول الزمخشري بأن : مكن له بمعنى جعل له مكانا ومكنه بمعنى أثبته . وكلام الراغب أمكن عربية . وقد أهملت التنبيه على هذين الرأيين كتب اللغة . واستعمال التمكين في معنى التثبيت والتقوية كناية أو مجاز مرسل لأنه يستلزم التقوية . وقد شاع هذا الاستعمال حتى صار كالصريح أو كالحقيقة .
و ( ما ) موصولة معناها التمكين فهي نائبة عن مصدر محذوف أي تمكينا لم نمكنه لكم فتنتصب ( ما ) على المفعولية المطلقة المبينة للنوع . والمقصود مكناهم تمكينا لم نمكنه لكم أي هو أشد من تمكينكم في الأرض .
والخطاب في قوله ( لكم ) التفات موجه إلى الذين كفروا لأنهم الممكنون في الأرض وقت نزول الآية وليس للمسلمين يومئذ تمكين . والالتفات هنا عكس الالتفات في قوله تعالى ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ) . والمعنى أن الأمم الخالية من العرب البائدة كانوا أشد قوة وأكثر جمعا من العرب المخاطبين بالقرآن وأعظم منهم آثار حضارة وسطوة . وحسبك أن العرب كانوا يضربون الأمثال للأمور العظيمة بأنها عادية أو ثمودية أو سبئية قال تعالى ( وعمروها أكثر مما عمروها ) أي عمر الذين من قبل أهل العصر الأرض أكثر مما عمرها أهل العصر