قالوا : ولم تنزل من السور الطوال سورة جملة واحدة غيرها . وقد وقع مثل ذلك في رواية شريك عن أسماء بنت يزيد كما علمته آنفا فلعل حكمة إنزالها جملة واحدة قطع تعلل المشركين في قولهم ( لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) . توهما منهم أن تنجيم نزوله يناكد كونه كتابا فأنزل الله سورة الأنعام . وهي في مقدار كتاب من كتبهم التي يعرفونها كالإنجيل والزبور ليعلموا أن الله قادر على ذلك إلا أن حكمة تنجيم النزول أولى بالمراعاة . وأيضا ليحصل الإعجاز بمختلف أساليب الكلام من قصر وطول وتوسط فإن طول الكلام قد يقتضيه المقام كما قال قيس بن خارجة يفخر بما عنده من الفضائل : وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب الخ " .
وقال أبو دؤاد بن جرير الأيادي يمدح خطباء إياد : .
يرمون بالخطب الطوال وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء A E واعلم أن نزول هذه السورة جملة واحدة على الصحيح لا يناكد ما يذكر لبعض آياتها من أسباب نزولها لأن أسباب نزول تلك الآيات إن كان لحوادث قبل الهجرة فقد تتجمع أسباب كثيرة في مدة قصيرة قبل نزول هذه السورة فيكون نزول تلك الآيات مسببا على تلك الحوادث وإن كان بعد الهجرة جاز أن تكون تلك الآيات مدنية ألحقت بسورة الأنعام لمناسبات . على أن أسباب النزول لا يلزم أن تكون مقارنة لنزول آيات أحكامها فقد يقع السبب ويتأخر تشريع حكمه .
وعلى القول الأصح أنها مكية فقد عدت هذه السورة الخامسة والخمسين في عد نزول السور . نزلت بعد سورة الحجر وقبل سورة الصافات .
وعدد آياتها مائة وسبع وستون في العدد المدني والمكي ومائة وخمس وستون في العدد الكوفي ومائة وأربع وستون في الشامي والبصري .
أغراض هذه السورة .
ابتدأت بإشعار الناس بأن حق الحمد ليس إلا لله لأنه مبدع العوالم جواهر وأعراضا فعلم أنه المتفرد بالإلهية . وإبطال تأثير الشركاء من الأصنام والجن بإثبات أنه المتفرد بخلق العالم جواهره وأعراضه وخلق الإنسان ونظام حياته وموته بحكمته تعالى وعلمه ولا تملك آلهتهم تصرفا ولا علما .
وتنزيه الله عن الولد والصاحبة . قال أبو إسحاق الإسفرائيني في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد .
وموعظة المعرضين عن آيات القرآن والمكذبين بالدين الحق وتهديدهم بأن يحل بهم ما حل بالقرون المكذبين من قبلهم والكافرين بنعم الله تعالى وأنهم ما يضرون بالإنكار إلا أنفسهم .
ووعيدهم بما سيلقون عند نزع أرواحهم ثم عند البعث .
وتسفيه المشركين فيما اقترحوه على النبي صلى الله عليه وسلم من طلب إظهار الخوارق تهكما .
وإبطال اعتقادهم أن الله لقنهم على عقيدة الإشراك قصدا منهم لإفحام الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان حقيقة مشيئة الله .
وإثبات صدق القرآن بأن أهل الكتاب يعرفون أنه الحق .
والإنحاء على المشركين تكذيبهم بالبعث وتحقيق أنه واقع وأنهم يشهدون بعده العذاب وتتبرأ منهم آلهتهم التي عبدوها وسيندمون على ذلك كما أنها لا تغني عنهم شيئا في الحياة الدنيا فإنهم لا يدعون إلا الله عند النوائب .
وتثبيت النبي A وأنه لا يؤاخذ بإعراض قومه وأمره بالإعراض عنهم .
وبيان حكمة إرسال الله الرسل وأنها الإنذار والتبشير وليست وظيفة الرسل إخبار الناس بما يتطلبون علمه من المغيبات .
وأن تفاضل الناس بالتقوى والانتساب إلى دين الله .
وإبطال ما شرعه أهل الشرك من شرائع الضلال .
وبيان أن التقوى الحق ليست مجرد حرمان النفس من الطيبات بل هي حرمان النفس من الشهوات التي تحول بين النفس وبين الكمال والتزكية .
وضرب المثل للنبي مع قومه بمثل إبراهيم مع أبيه وقومه ؛ وكان الأنبياء والرسل على ذلك المثل من تقدم منهم ومن تأخر .
والمنة على الأمة بما أنزل الله من القرآن هدى لهم كما أنزل الكتاب على موسى وبأن جعلها الله خاتمة الأمم الصالحة .
وبيان فضيلة القرآن ودين الإسلام وما منح الله لأهله من مضاعفة الحسنات .
وتخللت ذلك قوارع للمشركين وتنويه بالمؤمنين وامتنان بنعم اشتملت عليها مخلوقات الله وذكر مفاتح الغيب