يجوز أن يكون عطفا على جملة ( إذ أيدتك بروح القدس ) فيكون من جملة ما يقوله الله لعيسى يوم يجمع الرسل . فإن إيمان الحواريين نعمة على عيسى إذ لو لم يؤمنوا به لما وجد من يتبع دينه فلا يحصل له الثواب المتجدد بتجدد اهتداء الأجيال بدينه إلى أن جاء نسخه بالإسلام .
والمراد بالوحي إلى الحواريين إلهامهم عند سماع دعوة عيسى للمبادرة بتصديقه فليس المراد بالوحي الذي به دعاهم عيسى . ويجوز أن يكون الوحي الذي أوحي به إلى عيسى ليدعو بني إسرائيل إلى دينه . وخص الحواريون به هنا تنويها بهم حتى كأن الوحي بالدعوة لم يكن إلا لأجلهم لأن ذلك حصل لجميع بني إسرائيل فكفر أكثرهم على نحو قوله تعالى ( إذ قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ) ؛ فكان الحواريون سابقين إلى الإيمان لم يترددوا في صدق عيسى . و ( أن ) تفسيرية للوحي الذي ألقاه الله في قلوب الحواريين .
وفصل جملة ( قالوا آمنا ) لأنها جواب ما فيه معنى القول وهو ( أوحينا ) على طريقة الفصل في المحاورة كما تقدم في سورة البقرة وهو قول نفسي حصل حين ألقى الله في قلوبهم تصديق عيسى فكأنه خاطبهم فأجابوه . والخطاب في قولهم : ( واشهد ) لله تعالى وإنما قالوا ذلك بكلام نفسي من لغتهم فحكى الله معناه بما يؤديه قوله : ( واشهد بأننا مسلمون ) . وسمي إيمانهم إسلاما لأنه كان تصديقا راسخا قد ارتفعوا به عن مرتبة إيمان عامة من آمن بالمسيح غيرهم فكانوا مماثلين لإيمان عيسى وهو إيمان الأنبياء والصديقيين وقد قدمت بيانه في تفسير قوله تعالى ( ولكن كان حنيفا مسلما ) في سورة آل عمران وفي تفسير قوله ( فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) في سورة البقرة فارجع إليه .
( إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين [ 112 ] قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين [ 113 ] ) جملة ( إذ قال الحواريون ) يجوز أن تكون من تمام الكلام الذي يكلم الله به عيسى يوم يجمع الرسل فيكون ( إذ ) ظرفا متعلقا بفعل ( قالوا آمنا ) فيكون مما يذكر الله به عيسى يوم يجمع الرسل فحكي على حسب حصوله في الدنيا وليس ذلك بمقتض أن سؤالهم المائدة حصل في أول أوقات إيمانهم بل في وقت آخر ( قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ) ؛ فإن قولهم ( آمنا ) قد يتكرر منهم بمناسبات كما يكون عند سماعهم تكذيب اليهود عيسى أو عند ما يشاهدون آيات على يد عيسى أو يقولونه لإعادة استحضار لإيمان شأن الصديقين الذين يحاسبون أنفسهم ويصقلون إيمانهم فيقولون في كل معاودة . آمنا واشهد بأننا مسلمون . وأما ما قرر به الكشاف ومتابعوه فلا يحسن تفسير الكلام به .
ويجوز أن يكون جملة ( إذ قال الحواريون ) ابتدائية بتقدير : اذكر على أسلوب قوله تعالى ( إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا ) في سورة النمل فيكون الكلام تخلصا إلى ذكر قصة المائدة لمناسبة حكاية ما دار بين عيسى وبين الحواريين في قوله تعالى ( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ) .
وابتدأوا خطابهم عيسى بندائه باسمه للدلالة على أن ما سيقولونه أمر فيه اقتراح وكلفة له وكذلك شأن من يخاطب من يتجشم منه كلفة أن يطيل خطابه طلبا لإقبال سمعه إليه ليكون أوعى للمقصود .
A E