وأما حكم تغليظ اليمين فقد أخذ من الآية أن اليمين تقع بعد الصلاة فكان ذلك أصلا في تغليظ اليمين في نظر بعض أهل العلم ويجيء في تغليظ اليمين أن يكون بالزمان والمكان واللفظ . وفي جميعها اختلاف بين العلماء . وليس في الآية ما يتمسك به بواحد من هذه الثلاثة إلا قوله : ( من بعد الصلاة ) وقد بينت أن الأظهر أنه خاص بالوصية وأما التغليظ بالمكان وباللفظ فتفصيله في كتب الخلاف .
( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علم الغيوب [ 109 ] إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتب والحكمة والتورية والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين [ 110 ] ) جملة ( يوم يجمع الله الرسل ) استئناف ابتدائي متصل بقوله : ( فأثابهم الله بما قالوا إلى قوله وذلك جزاء المحسنين ) . وما بينهما جمل معترضة نشأ بعضها عن بعض فعاد الكلام الآن إلى أحوال الذين اتبعوا عيسى عليه السلام فبدل كثير منهم تبديلا بلغ بهم إلى الكفر ومضاهاة المشركين للتذكير بهول عظيم من أهوال يوم القيامة تكون فيه شهادة الرسل على الأمم وبراءتهم مما أحدثه أممهم بعدهم في الدين مما لم يأذن به الله والتخلص من ذلك إلى شهادة عيسى على النصارى بأنه لم يأمرهم بتأليهه وعبادته . وهذا متصل في الغرض بما تقدم من قوله تعالى ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) . فإن في تلك الآيات ترغيبا وترهيبا وإبعادا وتقريبا وقع الانتقال منها إلى أحكام تشريعية ناسبت ما ابتدعه اليهود والنصارى وذلك من قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) وتفنن الانتقال إلى هذا المبلغ فهذا عود إلى بيان تمام نهوض الحجة على النصارى في مشهد يوم القيامة . ولقد جاء هذا مناسبا للتذكير العام بقوله تعالى : ( واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . ولمناسبة هذا المقام التزم وصف عيسى بابن مريم كلما تكرر ذكره في هذه الآيات أربع مرات تعريضا بإبطال دعوى أنه ابن لله تعالى .
ولأنه لما تم الكلام على الاستشهاد على وصايا المخلوقين ناسب الانتقال إلى شهادة الرسل على وصايا الخالق تعالى فإن الأديان وصايا الله إلى خلقه . قال تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ) . وقد سماهم الله تعالى شهداء في قوله ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) .
فقوله ( يوم يجمع ) ظرف والأظهر أنه معمول لعامل محذوف يقدر بنحو : اذكر يوم يجمع الله الرسل أو يقدر له عامل يكون بمنزلة الجواب للظرف لأن الظرف إذا تقدم يعامل معاملة الشرط في إعطائه جوابا . وقد حذف هذا العامل لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن من التهويل تقديره يوم يجمع الله الرسل يكون هول عظيم لا يبلغه طول التعبير فينبغي طيه . ويجوز أن يكون متعلقا بفعل ( قالوا لا علم لنا . . ) الخ أي أن ذلك الفعل هو المقصود من الجملة المستأنفة . وأصل نظم الكلام : يجمع الله الرسل يوم القيامة فيقول الخ . فغير نظم الكلام إلى الأسلوب الذي وقع في الآية للاهتمام بالخبر فيفتتح بهذا الظرف المهول وليورد الاستشهاد في صورة المقاولة بين الله والرسل . والمقصود من الكلام هو ما يأتي بقوله : ( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس ) وما بينهما اعتراض .
ومن البعيد أن يكون الظرف متعلقا بقوله ( لا يهدي القوم الفاسقين ) لأنه لا جدوى في نفي الهداية في يوم القيامة ولأن جزالة الكلام تناسب استئنافه ولأن تعلقه به غير واسع المعنى .
A E