ومعنى قوله ( على وجهها ) أي على سنتها وما هو مقوم تمامها وكمالها فاسم الوجه في مثل هذا مستعار لأحسن ما في الشيء وأكمله تشبيها بوجه الإنسان إذ هو العضو الذي يعرف به المرء ويتميز عن غيره . ولما أريد منه معنى الاستعارة لهذا المعنى وشاع هذا المعنى في كلامهم قالوا : جاء بالشيء الفلاني على وجهه فجعلوا الشيء مأتيا به ووصفوه بأنه أتي به متمكنا من وجهه أي من كمال أحواله . فحرف ( على ) للاستعلاء المجازي المراد منه التمكن مثل ( أولئك على هدى من ربهم ) . والجار والمجرور في موضع الحال من ( الشهادة ) وصار ذلك قرينة على أن المراد من الوجه غير معناه الحقيقي .
وسنة الشهادة وكمالها هو صدقها والتثبت فيها والتنبه لما يغفل عنه من مختلف الأحوال التي قد يستخف بها في الحال وتكون للغفلة عنها عواقب تضيع الحقوق أي ذلك يعلمهم وجه التثبت في التحمل والأداء وتوخي الصدق وهو يدخل في قاعدة لزوم صفة اليقظة للشاهد .
وفي الآية إيماء إلى حكمة مشروعية الإعذار في الشهادة بالطعن أو المعارضة فإن في ذلك ما يحمل شهود الشهادة على التثبت في مطابقة شهادتهم للواقع لأن المعارضة والإعذار يكشفان عن الحق .
وقوله ( أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) عطف على قوله ( أن يأتوا ) باعتبار ما تعلق به من المجرورات وذلك لأن جملة ( يأتوا بالشهادة على وجهها ) أفادت الإتيان بها صادقة لا نقصان فيها بباعث من أنفس الشهود ولذلك قدرناه بمعنى أن يعلموا كيف تكون الشهادة الصادقة . فأفادت الجملة المعطوف عليها إيجاد وازع للشهود من أنفسهم وأفادت الجملة المعطوفة وازعا هو توقع ظهور كذبهم .
ومعنى ( أن ترد أيمان ) أن ترجع أيمان إلى ورثة الموصي بعد أيمان الشهيدين . فالرد هنا مجاز في الانتقال مثل قولهم : قلب عليه اليمين فيعيروا به بين الناس فحرف ( أو ) للتقسيم وهو تقسيم يفيد تفضيل ما أجملته الإشارة في قوله ( ذلك أدنى ) الخ... .
وجمع ( الأيمان ) باعتبار عموم حكم الآية لسائر قضايا الوصايا التي من جنسها على أن العرب تعدل عن التثنية كثيرا . ومنه قوله تعالى ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) .
وذيل هذا الحكم الجليل بموعظة جميع الأمة فقال ( واتقوا الله ) الآية .
وقوله ( واسمعوا ) أمر بالسمع المستعمل في الطاعة مجازا كما تقدم في قوله تعالى ( إذ قلتم سمعنا وأطعنا ) في هذه السورة .
وقوله ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) تحريض على التقوى والطاعة لله فيما أمر ونهى وتحذير من مخالفة ذلك لأن في اتباع أمر الله هدى وفي الإعراض فسقا . ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) أي المعرضين عن أمر الله فإن ذلك لا يستهان به لأنه يؤدي إلى الرين على القلب فلا ينفذ إليه الهدى من بعد فلا تكونوهم وكونوا من المهتدين .
هذا تفسير الآيات توخيت فيه أوضح المعاني وأوفقها بالشريعة وأطلت في بيان ذلك لإزالة ما غمض من المعاني تحت إيجازها البليغ . وقد نقل الطيبي عن الزجاج أن هذه الآية من أشكل ما في القرآن من الإعراب . وقال الفخر : روى الواحدي عن عمر : هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام . وقال ابن عطية عن مكي بن أبي طالب : هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما . قال ابن عطية : وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها . وذلك بين من كتابه .
ولقصد استيفاء معاني الآيات متتابعة تجنبت التعرض لما تفيده من الأحكام واختلاف علماء الإسلام فيها في أثناء تفسيرها . وأخرت ذلك إلى هذا الموضع حين انتهيت من تفسير معانيها .
وقد اشتملت على أصلين : أحدهما الأمر بالإشهاد على الوصية وثانيهما فصل القضاء في قضية تميم الداري وعدي بن بداء مع أولياء بديل بن أبي مريم .
فالأصل الأول من قوله تعالى ( شهادة بينكم ) إلى قوله ( ولا نكتم شهادة الله ) .
والأصل الثاني من قوله ( فإن عثر على أنهما استحقا إثما ) إلى قوله ( بعد أيمانهم ) . ويحصل من ذلك معرفة وجه القضاء في أمثال تلك القضية مما يتهم فيه الشهود .
وقوله : ( شهادة بينكم ) الآية بيان لكيفية الشهادة وهو يتضمن الأمر بها ولكن عدل عن ذكر الأمر لأن الناس معتادون باستحفاظ وصاياهم عند محل ثقتهم .
A E