وكان السلف في القرن الأول ومنتصف القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس فلما نشأ النظر في العلم وطلب معرفة حقائق الأشياء وحدث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق لم يجد أهل العلم بدا من توسيع أساليب التأويل الصحيح لإفهام المسلم وكبت الملحد فقام الدين بصنيعهم على قواعده . وتميز المخلص له عن ماكره وجاحده . وكل فيما صنعوا على هدى . وبعد البيان لا يرجع إلى الإجمال أبدا . وما تأولوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله .
فغضب الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه الانتقام وهو مراتب أقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار ودون الغضب الكراهية فقد ورد في الحديث " ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال " ويقابلهما الرضى والمحبة وكل ذلك غير المشيئة والإرادة بمعنى التقدير والتكوين فلا يرضى لعباده الكفر ( وإن تشكروا يرضه لكم ) ( ولو شاء ربك ما فعلوه ) ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) وتفصيل هذه الجملة في علم الكلام .
واعلم أن الغضب عند حكماء الأخلاق مبدأ من مجموع الأخلاق الثلاثة الأصلية التي يعبر عن جميعها بالعدالة وهي : الحكمة والعفة والشجاعة فالغضب مبدأ الشجاعة إلا أن الغضب يعبر به عن مبدأ نفساني لأخلاق كثيرة متطرفة ومعتدلة فيلقبون بالقوة الغضبية ما في الإنسان من صفات السبعية وهي حب الغلبة ومن فوائدها دفع ما يضره ولها حد اعتدال وحد انحراف فاعتدالها الشجاعة وكبر الهمة وثبات القلب في المخاوف وانحرافها إما بالزيادة فهي التهور وشدة الغضب من شيء قليل والكبر والعجب والشراسة والحقد والحسد والقساوة أو بالنقصان فالجبن وخور النفس وصغر الهمة فإذا أطلق الغضب لغة انصرف إلى بعض انحراف الغضبية ولذلك كان من جوامع كلم النبي A " أن رجلا قال له أوصني قال : لا تغضب فكر مرارا فقال : لا تغضب " رواه الترمذي .
وسئل بعض ملوك الفرس : بم دام ملككم ؟ فقال : لأنا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب .
فالغضب المنهي عنه هو الغضب للنفس لأنه يصدر عنه الظلم والعدوان ومن الغضب محمود وهو الغضب لحماية المصالح العامة وخصوصا الدينية وقد ورد أن النبي كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله .
وقوله ( ولا الضالين ) معطوف على ( المغضوب عليهم ) كما هو متبادر قال ابن عطية : قال مكي ابن أبي طالب : إن دخول ( لا ) لدفع توهم عطف الضالين على الذين أنعم عليهم وهو توجيه بعيد فالحق أن ( لا ) مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من لفظ غير على طريقة العرب في المعطوف على ما في حيز النفي نحو قوله ( أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ) وهو أسلوب في كلام العرب . وقال السيد في حواشي الكشاف لئلا يتوهم أن المنفي هو المجموع فيجوز ثبوت أحدهما ولما كانت ( غير ) في معنى النفي أجريت إعادة النفي في المعطوف عليها وليست زيادة ( لا ) هنا كزيادتها في نحو ( ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك ) كما توهمه بعض المفسرين ؛ لأن تلك الزيادة لفظية ومعنوية لأن المعنى على الإثبات والتي هنا زيادة لفظية فحسب والمعنى على النفي .
والضلال سلوك غير الطريق المراد عن خطأ سواء علم بذلك فهو يتطلب الطريق أم لم يعلم ومنه ضالة الإبل وهو مقابل الهدى وإطلاق الضال على المخطئ في الدين أو العلم استعارة كما هنا . والضلال في لسان الشرع مقابل الاهتداء والاهتداء هو الإيمان الكامل والضلال ما دون ذلك قالوا وله عرض عريض أدناه ترك السنن وأقصاه الكفر . وقد فسرنا الهداية فيما تقدم أنها الدلالة بلطف فالضلال عدم ذلك ويطلق على أقصى أنواعه الختم والطبع والأكنة .
والمراد من المغضوب عليهم والضالين جنسا فرق الكفر فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد وعن تأويل بعيد جدا تحمل عليه غلبة الهوى فهؤلاء سلكوا من الصراط الذي خط لهم مسالك غير مستقيمة فاستحقوا الغضب لأنهم أخطأوا عن غير معذرة إذ ما حملهم على الخطأ إلا إيثار حظوظ الدنيا .
A E