محال أن تقول إذا قمت قمت وإذا أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة ومثله قول الله تعالى ( هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا ) وقد كان أبو علي " يعني الفارسي " امتنع في هذه الآية مما أخذناه اه . قلت : ولم يتضح توجيه امتناع أبي علي فلعله امتنع من اعتبار أغويناهم بدلا من أغوينا وجعله استئنافا وإن كان المآل واحدا . وفي استحضار المنعم عليهم بطريق الموصول وإسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة تنويه بشأنهم خلافا لغيرهم من المغضوب عليهم والضالين .
ثم إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعمت عليهم دون بقية أوصافه تمهيدا لبساط الإجابة فإن الكريم إذا قلت له أعطني كما أعطيت فلانا كان ذلك أنشط لكرمه كما قرره الشيخ الجد قدس الله سره في قوله A كما صليت على إبراهيم فيقول السائلون : اهدنا الصراط المستقيم الصراط الذي هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم وتهمما بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات قال تعالى ( لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة ) وتوطئة لما سيأتي بعد من التبرئ من أحوال المغضوب عليهم والضالين فتضمن ذلك تفاؤلا وتعوذا .
والنعمة " بالكسر وبالفتح " مشتقة من النعيم وهو راحة العيش وملائم الإنسان والترفه والفعل كسمع ونصر وضرب . والنعمة الحالة الحسنة لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات ومتعلق النعمة اللذات الحسية ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها صاحبها . فالمراد من النعمة في قوله الذين أنعمت عليهم النعمة التي لم يشبها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سوأى فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة وهي الأهم فيشمل النعم الدنيوية الموهوبي منها والكسبي والروحاني والجثماني ويشمل النعم الأخروية .
والنعمة بهذا المعنى يرجع معظمها إلى الهداية فإن الهداية إلى الكسبي من الدنيوي وإلى الأخروي كله ظاهرة فيها حقيقة الهداية ولأن الموهوب في الدنيا وإن كان حاصلا بلا كسب إلا أن الهداية تتعلق بحسن استعماله فيما وهب لأجله .
فالمراد من المنعم عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة . ولا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم وبين المهديين حينئذ فيكون في إبدال صراط الذين من الصراط المستقيم معنى بديع وهو أن الهداية نعمة وأن المنعم عليهم بالنعمة الكاملة قد هدوا إلى الصراط المستقيم . والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة . وإنما يلتئم كون المسئول طريق المنعم عليهم فيما مضى وكونه هو دين الإسلام الذي جاء من بعد باعتبار أن الصراط المستقيم جار على سنن الشرائع الحقة في أصول الديانة وفروع الهداية والتقوى فسألوا دينا قويما يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين الإسلام وقد جمع استقامة الأديان الماضية وزاد عليها . أو المراد من المنعم عليهم الأنبياء والرسل فإنهم كانوا على حالة أكمل مما كان عليه أممهم ولذلك وصف الله كثيرا من الرسل الماضين بوصف الإسلام وقد قال يعقوب لأبنائه " فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ذلك أن الله تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس لعدم تأهلهم للاضطلاع بذلك ولكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات وهي مراده تعالى من الخلق في الغاية ولنمثل لذلك بشرب الخمر فقد كان القدر غير المسكر منه مباحا وإنما يحرم السكر أو لا يحرم أصلا غير أن الأنبياء لم يكونوا يتعاطون القليل من المسكرات وهو المقدار الذي هدى الله إليه هذه الأمة كلها فسواء فسرنا المنعم عليهم بالأنبياء أو بأفضل أتباعهم أو بالمسلمين السابقين فالمقصد الهداية إلى صراط كامل ويكون هذا الدعاء محمولا في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت زمانه والتي لم يبلغ إلى نهايتها .
والقول في المطلوب من ( اهدنا ) على هذه التقادير كلها كالقول فيما تقدم من كون ( اهدنا ) لطلب الحصول أو الزيادة أو الدوام .
A E