فالتعريف في الصراط المستقيم تعريف العهد الذهني لأنهم سألوا الهداية لهذا الجنس في ضمن فرد وهو الفرد المنحصر فيه الاستقامة لأن الاستقامة لا تتعدد كما قال تعالى ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ) ولأن الضلال أنواع كثيرة كما قال ( ولو أعجبك كثرة الخبيث ) وقد يوجه هذا التفسير بحصول الهداية إلى الإسلام فعلمهم الله هذا الدعاء لإظهار منته وقد هداهم الله بما سبق من القرآن قبل نزول الفاتحة ويهديهم بما لحق من القرآن والإرشاد النبوي . وإطلاق الصراط المستقيم على دين الإسلام ورد في قوله تعالى ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ) . والأظهر عندي أن المراد بالصراط المستقيم المعارف الصالحات كلها من اعتقاد وعمل بأن يوقفهم إلى الحق والتمييز بينه وبين الضلال على مقادير استعداد النفوس وسعة مجال العقول النيرة والأفعال الصالحة بحيث لا يعتريهم زيغ وشبهات في دينهم وهذا أولى ليكون الدعاء طلب تحصيل ما ليس بحاصل وقت الطلب وإن المراد بحاجة إلى هذه الهداية في جميع شؤونه كلها حتى في الدوام على ما هو متلبس به من الخير للوقاية من التقصير فيه أو الزيغ عنه . والهداية إلى الإسلام لا تقصر على ابتداء اتباعه وتقلده بل هي مستمرة باستمرار تشريعاته وأحكامه بالنص أو الاستنباط . وبه يظهر موقع قوله ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) مصادفا المحز .
( صراط الذين أنعمت عليهم ) بدل أو عطف بيان من الصراط المستقيم وإنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن يقال : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم لفائدتين : الأولى : أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله . الفائدة الثانية ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي وأيضا لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي واعتبار البدلية مساو لاعتباره عطف بيان لا مزية لأحدهما على الآخر خلافا لمن حاول التفاضل بينهما إذ التحقيق عندي أن عطف البيان اسم لنوع من البدل وهو البدل المطابق وهو الذي لم يفصح أحد من النحاة على تفرقة معنوية بينهما ولا شاهدا يعين المصير إلى أحدهما دون الآخر . قال في الكشاف " فإن قلت ما فائدة البدل قلت فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير " اه فأفهم كلامه أن فائدة الإبدال أمران يرجعان إلى التوكيد وهما ما فيه من التثنية أي تكرار لفظ البدل ولفظ المبدل منه وعنى بالتكرير ما يفيده البدل عند النحاة من تكرير العامل وهو الذي مهد له في صدر كلامه بقوله " وهو في حكم تكرير العامل كأنه قيل : " اهدنا الصراط المستقيم هدنا صراط الذين " وسماه تكريرا لأنه إعادة للفظ بعينه بخلاف إعادة لفظ المبدل منه فإنه إعادة له بما يتحد مع ما صدقه فلذلك عبر بالتكرير وبالتثنية ومراده أن مثل هذا البدل وهو الذي فيه إعادة لفظ المبدل منه يفيد فائدة البدل وفائدة التوكيد اللفظي وقد علمت أن الجمع بين الأمرين لا يتأتى على وجه معتبر عند البلغاء إلا بهذا الصوغ البديع .
وإن إعادة الاسم في البدل أو البيان ليبنى عليه ما يراد تعلقه بالاسم الأول أسلوب بهيج من الكلام البليغ لإشعار إعادة اللفظ بأن مدلوله بمحل العناية وأنه حبيب إلى النفس ومثله تكرير الفعل كقوله تعالى ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) وقوله ( ربنا هؤلاء الذين أغويناهم كما غوينا ) فإن إعادة فعل مروا وفعل أغويناهم وتعليق المتعلق بالفعل المعاد دون الفعل الأول تجد له من الروعة والبهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول دون إعادة وليست الإعادة في مثله لمجرد التأكيد لأنه قد زيد عليه ما تعلق به .
قال ابن جني في شرح مشكل الحماسة عند قول الأحوص : .
فإذا تزول تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران A E