( وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب [ 4 ] ) يجوز أن يكون عطفا على ( الطيبات ) عطف المفرد على نية مضاف محذوف والتقدير : وصيد ما علمتم من الجوارح يدل عليه قوله ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) . فما موصولة وفاء ( فكلوا ) للتفريع .
ويجوز أن يكون عطف جملة على جملة وتكون ( ما ) شرطية وجواب الشرط ( فكلوا مما أمسكن ) .
وخص بالبيان من بين الطيبات لأن طيبه قد يخفى من جهة خفاء معنى الذكاة في جرح الصيد لا سيما صيد الجوارح وهو محل التنبيه هنا الخاص بصيد الجوارح . وسيذكر صيد الرماح والقنص في قوله تعالى ( ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ) . والمعنى : وما أمسك عليكم ما علمتم بقرينة قوله بعد ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) لظهور أن ليس المراد إباحة أكل الكلاب والطيور المعلمة .
والجوارح : جمع الجارح أو الجارحة جرى على صيغة جمع فاعلة لأن الدواب مراعى فيها تأنيث جمعها كما قالت العرب للسباع : الكواسب قال لبيد : .
" غبس كواسب ما يمن طعامها ولذلك تجمع جمع التأنيث كما سيأتي ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) .
( ومكلبين ) حال من ضمير ( علمتم ) مبينة لنوع التعليم وهو تعليم المكلب والمكلب بكسر اللام بصيغة اسم الفاعل معلم الكلاب يقال : مكلب ويقال : كلاب .
( فمكلبين ) وصف مشتق من الاسم الجامد اشتق من اسم الكلب جريا على الغالب في صيد الجوارح ولذلك فوقوعه حالا من ضمير ( علمتم ) ليس مخصصا للعموم الذي أفاده قوله ( وما علمتم ) فهذا العموم يشمل غير الكلاب من فهود وبزاة . وخالف في ذلك ابن عمر حكى عنه ابن المنذر أنه قصر إباحة أكل ما قتله الجارح على صيد الكلاب لقوله تعالى ( مكلبين ) قال : فأما ما يصاد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو لك حلال وإلا فلا تطعمه . وهذا أيضا قول الضحاك والسدي : فأما الكلاب فلا خلاف في إباحة عموم صيد المعلمات منها إلا ما شذ من قول الحسن وقتادة والنخعي بكراهة صيد الكلب الأسود البهيم أي علم السواد محتجين بقول النبي A " الكلب الأسود شيطان " أخرجه مسلم وهو احتجاج ضعيف مع أن النبي عليه السلام سماه كلبا وهل يشك أحد أن معنى كونه شيطانا أنه مظنة للعقر وسوء الطبع . على أن مورد الحديث في أنه يقطع الصلاة إذا مر بين يدي المصلي . على أن ذلك متأول . وعن احمد بن حنبل : ما أعرف أحدا يرخص فيه " أي في أكل صيده " إذا كان بهيما وبه قال إسحق ابن راهوية وكيف يصنع بجمهور الفقهاء .
وقوله ( تعلمونهن مما علمكم الله ) حال ثانية قصد بها الامتنان والعبرة والمواهب التي أودعها الله في الإنسان إذ جعله معلما بالجبلة من يوم قال ( يآدم أنبئهم بأسمائهم ) والمواهب التي أودعها الله في بعض الحيوان إذ جعله قابلا للتعلم . فباعتبار كون مفاد هذه الحال هو مفاد عاملها تتنزل منزلة الحال المؤكدة وباعتبار كونها تضمنت معنى الامتنان فهي مؤسسة . قال صاحب الكشاف " وفي تكرير الحال فائدة أن على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علما وأنحرهم دراية وأغوصهم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل فكم من آخذ عن غير متقن قد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله " . اه .
والفاء في قوله ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) فاء الفصيحة عن قوله ( وما علمتم من الجوارح ) إن جعلت ( ما ) من قوله ( وما علمتم ) موصولة فإن جعلتها شرطية فالفاء رابطة للجواب .
وحرف ( من ) في قوله ( مما أمسكن عليكم ) للتبعيض وهذا تبعيض شائع الاستعمال في كلام العرب عند ذكر المتناولات كقوله ( كلوا من ثمره ) . وليس المقصود النهي عن أكل جميع ما يصيده الصائد ولا أن ذلك احتراس عن أكل الريش والعظم والجلد والقرون ؛ لأن ذلك كله لا يتوهمه السامع حتى يحترس منه .
وحرف ( على ) في قوله ( مما أمسكن عليكم ) بمعنى لام التعليل كما تقول : سجن على الاعتداء وضرب الصبي على الكذب وقول علقمة ابن شيبان :