وقد قيل إن حقيقة الهداية الدلالة على الطريق للوصول إلى المكان المقصود فالهادي هو العارف بالطرق وفي حديث الهجرة " إن أبا بكر استأجر رجلا من بني الديل هاديا خريتا " وإن ما نشأ من معاني الهداية هو مجازات شاع استعمالها . والهداية في اصطلاح الشرع حين تسند إلى الله تعالى هي الدلالة على ما يرضي الله من فعل الخير ويقابلها الضلالة وهي التغرير . واختلف علماء الكلام في اعتبار قيد الإيصال إلى الخير في حقيقة الهداية فالجمهور على عدم اعتباره وأنها الدلالة على طريق الوصول سواء حصل الوصول أم لم يحصل وهو قول الأشاعرة وهو الحق . وذهب جماعة منهم الزمخشري إلى أن الهداية هي الدلالة مع الإيصال وإلا لما امتازت عن الضلالة أي حيث كان الله قادرا على أن يوصل من يهديه إلى ما هداه إليه ومرجع الخلاف إلى اختلافهم في أصل آخر وهو أصل معنى رضى الله ومشيئته وإرادته وأمره فأصحاب الأشعري اعتبروا الهداية التي هي من متعلق الأمر . والمعتزلة نظروا إلى الهداية التي هي من متعلق التكوين والخلق ولا خلاف في أن الهداية مع الوصول هي المطلوبة شرعا من الهادي والمهدي مع أنه قد يحصل الخطأ للهادي وسوء القبول من المهدي وهذا معنى ما اختار عبد الحكيم أنها موضوعة في الشرع لقدر المشترك لورودها في القرآن في كل منهما قال ( إنك لا تهدي من أحببت ) وقال ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) والأصل عدم الاشتراك وعدم المجاز .
والهداية أنواع تندرج كثرتها تحت أربعة أجناس مترتبة : الأول إعطاء القوى المحركة والمدركة التي بها يكون الاهتداء إلى انتظام وجود ذات الإنسان ويندرج تحتها أنواع تبتدئ من إلهام الصبي التقام الثدي والبكاء عند الألم إلى غاية الوجدانيات التي بها يدفع عن نفسه كإدراك هول المهلكات وبشاعة المنافرات ويجلب مصالحه الوجودية كطلب الطعام والماء وذود الحشرات عنه وحك الجلد واختلاج العين عند مرور ما يؤذي تجاهها ونهايتها أحوال الفكر وهو حركة النفس في المعقولات أعني ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول في البديهيات وهي القوة الناطقة التي انفرد بها الإنسان المنتزعة من العلوم المحسوسة . الثاني نصب الأدلة الفارقة بين الحق والباطل والصواب والخطأ وهي هداية العلوم النظرية . الثالث الهداية إلى ما قد تقصر عنه الأدلة أو يفضي إعمالها في مثله إلى مشقة وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب وموازين القسط وإليها الإشارة بقوله تعالى في شأن الرسل ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ) . الرابع أقصى أجناس الهداية وهي كشف الحقائق العليا وإظهار أسرار المعاني التي حارت فيها ألباب العقلاء إما بواسطة الوحي والإلهام الصحيح أو التجليات وقد سمى الله تعالى هذا هدى حين أضافه للأنبياء فقال ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) .
ولا شك أن المطلوب بقوله ( اهدنا ) الملقن للمؤمنين هو ما يناسب حال الداعي بهذا إن كان باعتبار داع خاص أو طائفة خاصة عندما يقولون : اهدنا أو هو أنواع الهداية على الجملة باعتبار توزيعها على من تأهل لها بحسب أهليته إن كان دعاء على لسان المؤمنين كلهم المخاطبين بالقرآن وعلى كلا التقديرين فبعض أنواع الهداية مطلوب حصوله لمن لم يبلغ إليه وبعضها مطلوب دوامه لمن كان حاصلا له خاصة أو لجميع الناس الحاصل لهم وذلك كالهداية الحاصلة لنا قبل أن نسألها مثل غالب أنواع الجنس الأول .
A E