فكأن الحامد لما انتقل من الحمد إلى المناجاة لم يغادر فرصة يقتنص منها الثناء إلا انتهزها .
A E ووجه تقديم قوله ( إياك نعبد ) على قوله ( وإياك نستعين ) أن العبادة تقرب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة . وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدم المناجى ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبودا للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل . وقد حصل من ذلك التقديم أيضا إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان وأعيد لفظ ( إياك ) في الاستعانة دون أن يعطف فعل ( نستعين ) على ( نعبد ) مع أنهما مقصودان جميعا كما أنبأ عنه عطف الجملة على الجملة لأن بين الحصرين فرقا فالحصر في ( إياك نعبد ) حقيقي والقصر في ( إياك نستعين ) ادعائي فإن المسلم قد يستعين غير الله تعالى كيف وقد قال تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ) ولكنه لا يستعين في عظائم الأمور إلا بالله ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة بالله تعالى .
( اهدنا الصراط المستقيم [ 6 ] ) تهيأ لأصحاب هذه المناجاة أن يسعوا إلى طلب حظوظهم الشريفة من الهداية بعد أن حمدوا الله ووصفوه بصفات الجلالة ثم أتبعوا ذلك بقولهم ( إياك نعبد وإياك نستعين ) الذي هو واسطة جامع بين تمجيد الله تعالى وبين إظهار العبودية وهي حظ العبد بأنه عابد ومستعين وأنه قاصر ذلك على الله تعالى فكان ذلك واسطة بين الثناء وبين الطلب حتى إذا ظنوا بربهم الإقبال عليهم ورجوا من فضله أفضوا إلى سؤل حظهم فقالوا ( اهدنا الصراط المستقيم ) فهو حظ الطالبين خاصة لما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم فهذا هو التوجيه المناسب لكون الفاتحة بمنزلة الديباجة للكتاب الذي أنزل هدى للناس ورحمة فتتنزل هاته الجملة مما قبلها منزلة المقصد من الديباجة أو الموضوع من الخطبة أو التخلص من القصيدة ولاختلاف الجمل المتقدمة معها بالخبرية والإنشائية فصلت هذه عنهن وهذا أولى في التوجيه من جعلها جوابا لسؤال مقدر على ما ذهب إليه صاحب الكشاف .
والهداية الدلالة بتلطف ولذلك خصت بالدلالة لما فيه خير المدلول لأن التلطف يناسب من أريد به الخير وهو يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه لأن معناه معنى الإرشاد ويتعدى إلى المفعول الثاني وهو المهدى إليه بإلى وباللام والاستعمالان واردان تقول هديته إلى كذا على معنى أوصلته إلى معرفته وهديته لكذا على معنى أرشدته لأجل كذا ( فاهدوهم إلى صراط الجحيم ) ( الحمد لله الذي هدانا لهذا ) وقد يعدى إلى المفعول الثاني بنفسه كما هنا على تضمينه معنى عرف قيل هي لغة أهل الحجاز وأما غيرهم فلا يعديه بنفسه وقد جعلوا تعديته بنفسه من التوسع المعبر عنه بالحذف والإيصال . وقيل الفرق بين المتعدي وغيره أن المتعدي يستعمل في الهداية لمن كان في الطريق ونحوه ليزداد هدى ومصدره حينئذ الهداية وأما هداه إلى كذا أو لكذا فيستعمل لمن لم يكن سائرا في الطريق ومصدره هدى وكأن صاحب هذا القول نظر إلى أن المتعدي بالحرف إنما عدي لتقويته والتقوية إما أن يقصد بها تقوية العامل لضعفه في العمل بالفرعية أو التأخير وإما أن يقصد بها تقوية معناه والحق أن هذا إن تم فهو أغلبي على أنه تخصيص من الاستعمال فلا يقتضي كون الفعل مختلف المعنى لأن الفعل لا تختلف معانيه باعتبار كيفية تعديته إلا إذا ضمن معنى فعل آخر على أن كلا من الهدى والهداية اسم مصدر والمصدر هو الهدى . والذي أراه أن التعدية والقصور ليسا من الأشياء التي تصنع باليد أو يصطلح عليها أحد بل هي جارية على معنى الحدث المدلول للفعل فإن كان الحدث يتقوم معناه بمجرد تصور من قام به فهو الفعل القاصر وإن كان لا يتقوم إلا بتصور من قام به ومن وقع عليه فهو المتعدي إلى واحد أو أكثر فإن أشكلت أفعال فإنما إشكالها لعدم اتضاح تشخص الحدث المراد منها لأن معناها يحوم حول معان متعددة . وهدى متعد لواحد لا محالة وإنما الكلام في تعديته لثان فالحق أنه إن اعتبر فيه معنى الإرادة والإبانة تعدى بنفسه وإن اعتبر فيه مطلق الإرشاد والإشارة فهو متعد بالحرف فحالة تعديته هي المؤذنة بالحدث المتضمن له .
A E