وقد احتوت هذه السورة على تشريعات كثيرة تنبئ بأنها أنزلت لاستكمال شرائع الإسلام ولذلك افتتحت بالوصاية بالوفاء بالعقود أي بما عاقدوا الله عليه حين دخولهم في الإسلام من التزام ما يؤمرون به فقد كان النبي A يأخذ البيعة على الصلاة والزكاة والنصح لكل مسلم كما في حديث جابر بن عبد الله في الصحيح . وأخذ البيعة على الناس بما في سورة الممتحنة كما روى عبادة بن الصامت . ووقع في أولها قوله تعالى ( إن الله يحكم ما يريد ) . فكانت طالعتها براعة استهلال .
وذكر القرطبي أن فيها تسع عشرة فريضة ليست في غيرها وهي سبع في قوله ( والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام وما علمتم من الجوارح مكلبين ) ؛ وطعام الذين أوتوا الكتاب والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب وتمام الطهور إذا قمتم إلى الصلاة " أي إتمام ما لم يذكر في سورة النساء " والسارق والسارقة . ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم إلى قوله ( عزيز ذو انتقام ) ( وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ) وقوله تعالى ( شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ) الآية وقوله ( وإذا ناديتم إلى الصلاة ) ليس في القرآن ذكر للأذان للصلوات إلا في هذه السورة . اه .
A E وقد احتوت على تمييز الحلال من الحرام في المأكولات وعلى حفظ شعائر الله في الحج والشهر الحرام والنهي عن بعض المحرمات من عوائد الجاهلية مثل الأزلام وفيها شرائع الوضوء والغسل والتيمم والأمر بالعدل في الحكم والأمر بالصدق في الشهادة وأحكام القصاص في الأنفس والأعضاء وأحكام الحرابة وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفاق المنافقين وتحريم الخمر والميسر والأيمان وكفارتها والحكم بين أهل الكتاب وأصول المعاملة بين المسلمين وبين أهل الكتاب وبين المشركين والمنافقين والخشية من ولايتهم أن تفضي إلى ارتداد المسلم عن دينه وإبطال العقائد الضالة لأهل الكتابين وذكر مساو من أعمال اليهود وإنصاف النصارى فيما لهم من حسن الأدب وأنهم أرجى للإسلام وذكر قضية التيه وأحوال المنافقين والأمر بتخلق المسلمين بما يناقض أخلاق الضالين في تحريم ما أحل لهم والتنويه بالكعبة وفضائلها وبركاتها على الناس وما تخلل ذلك أو تقدمه من العبر والتذكير للمسلمين بنعم الله تعالى والتعريض بما وقع فيه أهل الكتاب من نبذ ما أمروا به والتهاون فيه واستدعاؤهم للإيمان بالرسول الموعود به .
وختمت بالتذكير بيوم القيامة وشهادة الرسل على أممهم وشهادة عيسى على النصارى وتمجيد الله تعالى .
( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) تصدير السورة بالأمر بالإيفاء بالعقود مؤذن بأن سترد بعده أحكام وعقود كانت عقدت من الله على المؤمنين إجمالا وتفصيلا ذكرهم بها لأن عليهم الإيفاء بما عاقدوا الله عليه . وهذا كما تفتتح الظهائر السلطانية بعبارة : هذا ظهير كريم يتقبل بالطاعة والامتثال . وذلك براعة استهلال .
فالتعريف في العقود تعريف الجنس للاستغراق فشمل العقود التي عاقد المسلمون عليها ربهم وهو الامتثال لشريعته وذلك كقوله ( واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به ) ومثل ما كان يبايع عليه الرسول المؤمنين أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ويقول لهم : فمن وفى منكم فأجره على الله .
وشمل العقود التي عاقد المسلمون عليها المشركين مثل قوله ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) وقوله ( ولا أمين البيت الحرام ) . ويشمل العقود التي يتعاقدها المسلمون بينهم .
والإيفاء هو إعطاء الشيء وافيا أي غير منقوص ولما كان تحقق ترك النقص لا يحصل في العرف إلا بالزيادة على القدر الواجب صار الإيفاء مرادا منه عرفا العدل وتقدم عند قوله تعالى ( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ) في سورة النساء .
والعقود جمع عقد بفتح العين وهو الالتزام الواقع بين جانبين في فعل ما . وحقيقته أن العقد هو ربط الحبل بالعرورة ونحوها وشد الحبل في نفسه أيضا عقد . ثم استعمل مجازا في الالتزام فغلب استعماله حتى صار حقيقة عرفية قال الحطيئة : .
قوم اذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا