وقد روي عن عبد الله بن عمرو وعائشة أنها آخر سورة نزلت وقد قيل : إنها نزلت بعد النساء وما نزل بعدها إلا سورة براءة بناء على أن براءة آخر سورة نزلت وهو قول البراء بن عازب في صحيح البخاري . وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو وأسماء بنت يزيد : أنها نزلت ورسول الله في سفر وهو على ناقته العضباء وأنها نزلت عليه كلها . قال الربيع بن أنس : نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع .
وفي شعب الإيمان عن أسماء بنت يزيد : أنها نزلت بمنى . وعن محمد بن كعب : أنها نزلت في حجة الوداع بين مكة والمدينة . وعن أبي هريرة : نزلت مرجع رسول الله من حجة الوداع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة . وضعف هذا الحديث . وقد قيل : إن قوله تعالى ( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام ) أنزل يوم فتح مكة .
ومن الناس من روى عن عمر بن الخطاب : أن سورة المائدة نزلت بالمدينة في يوم اثنين . وهنالك روايات كثيرة أنها نزلت عام حجة الوداع ؛ فيكون ابتداء نزولها بالمدينة قبل الخروج إلى حجة الوداع .
وقد روي عن مجاهد : أنه قال : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم إلى غفور رحيم ) نزل يوم فتح مكة . ومثله عن الضحاك فيقتضي قولهما أن تكون هذه السورة نزلت في فتح مكة وما بعده .
وعن محمد بن كعب القرظي : أن أول ما نزل من هذه السورة قوله تعالى ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب إلى قوله صراط مستقيم ) ثم نزلت بقية السورة في عرفة في حجة الوداع .
ويظهر عندي أن هذه السورة نزل بعضها بعد بعض سورة النساء وفي ذلك ما يدل على أن رسول الله A قد استقام له أمر العرب وأمر المنافقين ولم يبق في عناد الإسلام إلا اليهود والنصارى . أما اليهود فلأنهم مختلطون بالمسلمين في المدينة وما حولها وأما النصارى فلأن فتوح الإسلام قد بلغت تخوم ملكهم في حدود الشام . وفي حديث عمر في صحيح البخاري : وكان من حول رسول الله قد استقام له ولم يبق إلا ملك غسان بالشام كنا نخاف أن يأتينا .
A E وقد امتازت هذه السورة باتساع نطاق المجادلة مع النصارى واختصار المجادلة مع اليهود عما في سورة النساء . مما يدل على أن أمر اليهود أخذ في تراجع ووهن وأن الاختلاط مع النصارى أصبح أشد منه من ذي قبل .
وفي سورة النساء تحريم السكر عند الصلوات خاصة وفي سورة المائدة تحريمه بتاتا فهذا متأخر عن بعض سورة النساء لا محالة . وليس يلزم أن لا تنزل سورة حتى ينتهي نزول أخرى بل يجوز أن تنزل سورتان في مدة واحدة .
وهي أيضا متأخرة عن سورة براءة : لأن براءة تشتمل على كثير من أحوال المنافقين وسورة المائدة لا تذكر من أحوالهم إلا مرة وذلك يؤذن بأن النفاق حين نزولها قد انقطع أو خضدت شوكة أصحابه . وإذ قد كانت سورة براءة نزلت في عام حج أبي بكر بالناس أعني سنة تسع من الهجرة .
فلا جرم أن بعض سورة المائدة نزلت في عام حجة الوداع وحسبك دليلا اشتمالها على آية ( اليوم أكملت لكم دينكم ) التي اتفق أهل الأثر على أنها نزلت يوم عرفة عام حجة الوداع كما في خبر عن عمر بن الخطاب . وفي سورة المائدة قوله تعالى ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم ) . وفي خطبة حجة الوداع يقول رسول الله A " إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم " .
وقد عدت السورة الحادية والتسعين في عدد السور على ترتيب النزول . عن جابر بن زيد نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الممتحنة .
وعدد آيها : مائة واثنتان وعشرون في عدد الجمهور ومائة وثلاث وعشرون في عد البصريين ومائة وعشرون عند الكوفيين .
وجعلت هذه السورة في المصحف قبل سورة الأنعام مع أن سورة الأنعام أكثر منها عدد آيات : لعل ذلك لمراعاة اشتمال هذه السورة على أغراض تشبه ما اشتملت عليه سورة النساء عونا على تبيين إحداهما للأخرى في تلك الأغراض