ثم إن في تعقيب قوله ( رب العالمين الرحمان الرحيم ) بقوله ( ملك يوم الدين ) إشارة إلى أنه ولي التصرف في الدنيا والآخرة فهو إذن تتميم . وقوله ( ملك ) قرأه الجمهور بدون ألف بعد الميم وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف " مالك " بالألف فالأول صفة مشبهة صارت اسما لصاحب الملك " بضم الميم " والثاني اسم فاعل من ملك إذا اتصف بالملك " بكسر الميم " وكلاهما مشتق من ملك فأصل مادة ملك في اللغة ترجع تصاريفها إلى معنى الشد والضبط كما قاله ابن عطية ثم يتصرف ذلك بالحقيقة والمجاز والتحقيق والاعتبار وقراءة " ملك " بدون ألف تدل على تمثيل الهيئة في نفوس السامعين لأن الملك " بفتح الميم وكسر اللام " هو ذو الملك بضم الميم والملك أخص من الملك إذ الملك " بضم الميم " هو التصرف في الموجودات والاستيلاء ويختص بتدبير أمور العقلاء وسياسة جمهورهم وأفرادهم ومواطنهم فلذلك يقال ملك الناس ولا يقال ملك الدواب أو الدراهم وأما الملك " بكسر الميم " فهو الاختصاص بالأشياء ومنافعها دون غيره . وقرأ الجمهور " ملك " بفتح الميم وكسر اللام دون ألف ورويت هذه القراءة عن النبي A وصاحبيه أبي بكر وعمر في كتاب الترمذي . قال ابن عطية حكى أبو علي عن بعض القراء أن أول من قرأ ( ملك يوم الدين ) مروان بن الحكم فرده أبو بكر بن السراج بأن الأخبار الواردة تبطل ذلك فلعل قائل ذلك أراد أنه أول من قرأ بها في بلد مخصوص . وأما قراءة " مالك " بألف بعد الميم بوزن اسم الفاعل فهي قراءة عاصم والكسائي ويعقوب وخلف ورويت عن عثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وطلحة والزبير ورواها الترمذي في كتابه أنها قرأ بها النبي A وصاحباه أيضا . وكلتاهما صحيحة ثابتة كما هو شأن القراءات المتواترة كما تقدم في المقدمة السادسة . وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة " ملك " " بدون ألف " وقراءة " مالك " " بالألف " من خصوصيات بحسب قصر النظر على مفهوم كلمة ملك ومفهوم كلمة مالك وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى يوم الدين فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف في شئون ذلك اليوم دون شبهة مشارك . ولا محيص عن اعتبار التوسع في إضافة ملك أو مالك إلى يوم بتأويل شئون يوم الدين . على أن مالك لغة في ملك ففي القاموس " وكأمير وكتف وصاحب ذو الملك " .
ويوم الدين يوم القيامة ومبدأ الدار الآخرة فالدين فيه بمعنى الجزاء قال الفند الزماني : .
فلما صرح الشر ... فأمسى وهو عريان .
ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا أي جازيناهم على صنعهم كما صنعوا مشاكلة أو كما جازوا من قبل إذا كان اعتداؤهم ناشئا عن ثأر أيضا وهذا هو المعنى المتعين هنا وإن كان للدين إطلاقات كثيرة في كلام العرب .
واعلم أن وصفه تعالى بملك يوم الدين تكملة لإجراء مجامع صفات العظمة والكمال على اسمه تعالى فإنه بعد أن وصف بأنه رب العالمين وذلك معنى الإلهية الحقة إذ يفوق ما كانوا ينعتون به آلهتهم من قولهم إله بني فلان فقد كانت الأمم تتخذ آلهة خاصة لها كما حكى الله عن بعضهم ( فقالوا هذا إلهكم وإله موسى ) وقال ( قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) وكانت لبعض قبائل العرب آلهة خاصة فقد عبدت ثقيف اللات قال الشاعر : .
" ووقرت ثقيف إلى لاتها وفي حديث عائشة في الموطأ " كان الأنصار قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل " الحديث .
فوصف الله تعالى بإنه رب العالمين كلهم ثم عقب بوصفي الرحمان الرحيم لإفادة عظم رحمته ثم وصف بأنه ملك يوم الدين وهو وصف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبئ عن عموم التصرف في المخلوقات في يوم الجزاء الذي هو أول أيام الخلود فملك ذلك الزمان هو صاحب الملك الذي لا يشذ شيء عن الدخول تحت ملكه وهو الذي لا ينتهي ملكه ولا ينقضي فأين هذا الوصف من أوصاف المبالغة التي يفيضها الناس على أعظم الملوك : مثل ملك الملوك " شاهان شاه " وملك الزمان وملك الدنيا " شاه جهان " وما شابه ذلك .
A E