فإن قلت : كيف يتصل قوله : " ولكنا أنشأنا قرونا " بهذا الكلام ؟ ومن أي وجه يكون استراكا له ؟ قلت : اتصاله به وكونه استدراكا له من حيث أن معناه : وكلنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قرونا كثيرة " فتطاول " على آخرهم : وهو القرن الذي أنت فيهم " العمر " أي أمد انقطاع الوحي واندست العلوم فوجب إرسالك إليهم فأرسلناك وكسبناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى عليهم السلام كأنه قال : وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه ولكنا أوحينا إليك . فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ؛ ودل به على المسب على عادة الله D في اختصاراته ؛ فإذا هذا الإستدراك شبيه الاستدراكين بعده " وما كنت ثاويا " أي مقيما " في أهل مدين " وهم شعيب والمؤمنون به " تتلوا عليهم ءاياتنا " تقرؤها عليهم تعلما منهم يريد : الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكما .
" وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون " " إذ نادينا " يريد مناداة موسى عليه السلام ليلة المناجاة وتكلمه و " لكن " علمناك " رحمة " وقرئ : رحمة بالرفع : أي هي رحمة " ما أتاهم " من نذير في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهي خمسمائة وخمسون سنة ونحوه قوله : " لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم " يس : 6 .
" ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءايتك ونكون من المؤمنين " " لولا " الأولى امتناعه وجوابها محذوف والثانية تحضيضية وإحدى الفاءين للعطف والأخرى جواب لولا لكونها في حكم الأمر من قبل أن الأمر باعث على الفعل والباعث والمحضض من واد واحد . والمعنى : ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي : هلا أرسلت إلينا رسولا محتجبين علينا بذلك : لما أرسلنا إليهم يعنى : أن إرسال الرسول إليهم إنما هو ليلزموا الحجة ولا يلزمونها كقوله : " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء : 165 ، " أن تقلوا ما جاءنا من بشير ولا نذير " المائدة : 19 ، " ولولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءايتك " . فإن قلت : كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه ؟ قال : القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل ولكن العقوبة لما كانت في السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول فأدخلت عليها لولا وجئ بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ويؤول معناه إلى قولك : ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكته : وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين : لم يقولوا : " لولا أرسلت إلينا رسولا " وإنما السبب في قولهم الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم مالا يخفى كقوله تعالى : " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه " الأنعام : 28 . ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي : جعل كل عمل معبرا عنه باجتراح الأيدي وتقدم الأيدي وإن كان من أعمال القلوب وهذا من الاتساع في الكلام وتصيير الأقل تابعا للأكثر وتغليب الأكثر على الأقل .
" فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا أوتى مثل ما أوتى موسى أو لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل قالوا سحران تظهرا وقالوا إنا بكل كافرون "