لما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف .
" والذين هم للزكوة فعلون " .
الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى فالعين : القمر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى الفقير والمعنى : فعل المزكي الذي هو التزكية وهو الذي أراده الله فجعل المزكين فاعلين له ولا يسوغ فيه غيره لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل ويقال لمحدثه فاعل لقول للضارب : فاعل الضرب وللقاتل : فاعل القتل وللمزكي : فاعل التزكية . وعلى هذا الكلام كله والتحقيق فيه أنك تقول في جميع الحوادث : من فاعل هذا ؟ فيقال لك : فاعله الله أو بعض الخلق . ولم يمتنع الزكاة الحالة على العين أن يتعلق بها فاعلون لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل ولكن لأن الخلق ليسوا بفاعليها . وقد أنشد لأمية بن أبي الصلت : .
المطعمون الطعام في السنة ... الأزمة والفاعلون للزكوات .
ويجوز أن يراد بالزكاة : العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء وحمل البيت على هذا أصح لأنها فيه مجموعة .
" والذين هم لفروجهم حفظون إلا على أزوجهم أو ما ملكت أيمنهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " .
" على أزوجهم " في موضع الحال أي الأوالين على أزواجهم : أو قوامين عليهن من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان . ونظيره : كان زياد على البصرة أي : واليا عليها . ومنه قولهم : فلانة تحت فلان ومن ثمة سميت المرأة فراشا : والمعنى : أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم أو تعلق " على " بمحذوف يدل عليه " غير ملومين " المعارج : 30 ، كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم أي : يلامون على كل مباشر إلا على على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه . أو تجعله صلة لحافظين من قولك : احفظ علي عنان فرسي على تضمينه معنى النفي كما ضمن قولهم : نشدتك بالله إلا فعلت معنى ما طلبت منك إلا فعلك . فإن قلت : هلا قيل : من ملكت ؟ قلت : لأنه أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء وهم الإناث جعل المستثنى حدا أوجب الوقوف عنده ثم قال : فمن أحدث ابتغاء وراء هذا الحد مع فسحته واتساعه وهو إباحة أربع من الحرائر ومن الإماء ما شئت " فأولئك هم " الكاملون في العدوان المتناهون فيه . فإن قلت : هل فيه دليل على تحريم المتعة . قلت : لا لأن المنكوحة نكاح المتعة من جملة الأزواج إذا صح النكاح .
" والذين هم لأمنتهم عهدهم رعون " .
وقرىء : " لأمانتهم " سمى الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدا . ومنه قوله تعالى : " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " النساء : 58 ، وقال : " وتخونوا أماناتكم " الأنفال : 27 ، وإنما تؤدى العيون لا المعاني ويخان المؤتمن عليه لا الأمانة في نفسها . والراعي : القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية . ويقال : من راعي هذا الشيء . أي متوليه وصاحبه : ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الخلق والخصوص فيما حملوه من أمانات الناس وعهودهم .
" والذين هم على صلوتهم يحافظون " .
وقرىء : " على صلاتهم " . فإن قلت : كيف كرر ذكر الصلاة أولا وآخرا . قلت : هما ذكران مختلفان فليس بتكرير . وصفوا أولا بالخشوع في صلاتهم وآخرا بالمحافظة عليها . وذلك أن لا يسهوا عنها ويؤدوها في أوقاتها ويقيموا أركنها ويوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها وبما ينبغي أن تتم به أوصافها . وأيضا فقد وحدت أولا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أي صلاة كانت وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على أعدادها : وهي الصلوات الخمس والوتر والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة والعيدين والجنازة والاستسقاء والكسوف والخسوف وصلاة الضحى والتهجد وصلاة التسبيح وصلاة الحاجة . وغيرها من النوافل .
" أولئك هم الورثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خلدون "