سلم الله عليه في هذه الأحوال قال ابن عيينة : إنها أوحش المواطن .
" واذكر فى الكتب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " .
" إذ " بدل من " مريم " بدل اشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها . وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا لوقوع هذه القصة العجيبة فيه . والانتباذ : الاعتزال والانفراد تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس أو من دارها معتزلة عن الناس . وقيل : قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشيء يسترها وكان موضعها المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها فإذا طهرت عادت إلى المسجد فبينا هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمي شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوي الخلق لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا . أو حسن الصورة مستوي الخلق وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه . ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبرا لعفتها . وقيل : كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفجر السقف لها فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك . وقيل : قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس . وقيل : إن النصارى اتخذت المشرق قبلة لانتباذ مريم مكانا شرقيا الروح : جبريل لأن الدين يحيا به وبوحيه . أو سماه الله روحه على المجاز محبة له وتقريبا كما تقول لحبيبك : أنت روحي . وقرأ أبو حيوة : " روحنا " بالفتح ؛ لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المقربين في قوله : " فأما إن كان من المقربين فروح وريحان " الواقعة : 89 ، أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا وذا روحنا .
" قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " .
أرادت إن كان يرجى منك أن تتقي الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة " به " فإني عائذة به منك كقوله تعالى : " بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين " أهود : 86 .
" قال إنمآ أنا رسول ربك لأهب لك غلما زكيا " .
أي إنما أنا رسول من استعذت به " لأهب لك " لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الدرع . وفي بعض المصاحف : إنما أنا رسول ربك أمرني أن أهب لك . أو هي حكاية لقول الله تعالى .
" قالت أنى يكون لي غلم ولم يمسسنى بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله ءاية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا " .
جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه كقوله تعالى : " من قبل أن تمسوهن " البقرة : 237 ، " أو لامستم النساء " النساء : 43 ، والزنا ليس كذلك إنما يقال فيه : فجر بها وخبث بها وما أشبه ذلك وليس يقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب . والبغي : الفاجرة التي تبغي الرجال وهي فعول عند المبرد " بغوي " فأدغمت الواو في الياء . وقال ابن جنى في كتاب التمام : هي فعيل ولو كانت فعولا لقيل : " بغو " كما قيل : فلان نهو عن المنكر " ولنجعله ءاية " تعليل معلله محذوف أي : ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك . أو هو معطوف على تعليل مضمر أي لنبين به قدرتنا ولنجعله آية . ونحوه : " وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت " الجاثية : 23 ، وقوله : " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه " يوسف : 21 ، " مقضيا " مقدرا مسطورا في اللوح لا بد لك من جريه عليك . أو كان أمرا حقيقا بأن يكون ويقضي لكونه آية ورحمة . والمراد بالآية : العبرة وللبرهان على قدرة الله تعالى . وبالرحمة : الشرائع والألطاف وما كان سببا في قوة الاعتقاد والتوصل إلى الطاعة والعمل الصالح فهو جدير بالتكوين .
" فحملته فانتبذت به مكانا قصيا "