قالت الملائكة : ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطناه في الآخرة . فقال : وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان " . ورووا عن أبي هريرة أنه قال : لمؤمن كرم على الله من الملائكة الذين عنده . ومن ارتكابهم أنهم فسروا " كثيرا " بمعنى جميع في هذه الآية وخذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم : وفضلناهم على جميع ممن خلقنا على أن معنى قولهم " على جميع ممن خلقنا " أشجى لحلوقهم وأقذى لعيونهم ولكنهم لا يشعرون . فانظر إلى تمحلهم وتشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى كأن جبريل عليه السلام غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم .
" يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا " .
قرئ : يدعو بالياء والنون . ويدعى كل أناس على البناء للمفعول . وقرأ الحسن يدعوا كل أناس على قلب الألف واوا في لغة من يقول : افعوا . والظرف نصب بإضمار اذكر . ويجوز أن يقال : إنها علامة الجمع كما في " وأسروا النجوى الذين ظلموا " الأنبياء : 3 ، والرفع مقدر كما في يدعى ولم يؤت بالنون قلة مبالاة بها لأنها غير ضمير ليست إلا علامة " بإمامهم " بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين فيقال : يا أتباع فلان يا أهل دين كذا وكتاب كذا وقيل : بكتاب أعمالهم فيقال : يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر . وفي قراءة الحسن بكتابهم ومن بدع التفاسير : أن الإمام جمع أم وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا يفتضح أولاد الزنا . وليت شعري أيهما أبدع ؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته ؟ " فمن أوتي " من هؤلاء المدعوين " كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم " قيل أولئك لأن من أوتي في معنى الجمع . فإن قلت : لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم ؟ كأن أصحاب الشمال لا يقرؤون كتابهم . قلت : بلى ولكن إذا اطلعوا على ما في كتابهم أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته والاعتراف بمساويه أمام التنكيل به والانتقام منه من الحياء والخجل والانخزال وحبسة اللسان والتتعتع والعجز عن إقامة حروف الكلام والذهاب عن تسوية القول فكأن قراءتهم كلا قراءة . وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم أحسن قراءة وأبينها ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم حتى يقول القارئ لأهل المحشر : " هاؤم اقرؤوا كتابيه " الحاقة : 19 ، " ولا يظلمون فتيلا " ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء كقوله " ولا يظلمون شيئا " مريم : 60 ، " فلا يخاف ظلما ولا هضما " طه : 112 .
" ومن كان في هذه الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " .
معناه : ومن كان في الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى كذلك " وأضل سبيلا " من الأعمى : والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة : أما في الدنيا فلفقد النظر . وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل . ومن ثم قرأ أبو عمرو الأول ممالا والثاني مفخما لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام كقولك : أعمالكم وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة .
" وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة الدنيا وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا "