" من كفر " بدل من الذين لا يؤمنون بآيات الله على أن يجعل " وأولئك هم الكاذبون " النحل : 105 ، اعتراضا بين البدل والمبدل منه . والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء ثم قال : " ولكن من شرح بالكفر صدرا " أي طاب به نفسا واعتقده " فعليهم غضب من الله " ويجوز أن يكون بدلا من المبتدأ الذي هو " وأولئك " على : ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون . أو من الخبر الذي هو الكاذبون على : وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه . ويجوز أن ينتصب على الذم . وقد جوزوا أن يكون " من كفر بالله " شرطا مبتدأ ويحذف جوابه لأن جواب " من شرح " دال عليه كأنه قيل : من كفر بالله فعليهم غضب إلا من أكره ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب روي : أن ناسا من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان منهم عمار وأبواه ياسر وسمية وصهيب وبلال وخباب وسالم : عذبوا فأما سمية فقد ربطت بين بعيرين ووجئ في قبلها بحربة وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتل ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها . فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر فقال : " كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه " فأتى عمار رسول الله A وهو يبكي فجعل النبي A يمسح عينيه وقال : " مالك ! .
إن عادوا لك فعد لهم بما قلت " ومنهم جبر مولى الحضرمي . أكرهه سيده فكفر ثم أسلم مولاه وأسلم وحسن إسلامهما وهاجرا فإن قلت : أي الأمرين أفضل أفعل عمار أم فعل أبويه ؟ قلت : بل فعل أبويه لأن في ترك التقية والصبر على القتل إعزازا للإسلام . وقد روي : أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله . قال : فما تقول في ؟ قال أنت أيضا فخلاه . وقال للآخر : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله . قال : فما تقول في ؟ قال أنا أصم . فأعاد عليه ثلاثا فأعاد جوابه فقتله فبلغ ذلك رسول الله A فقال : " أما الأول فقد أخذ برخصة الله . وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له " . " ذلك " إشارة إلى الوعيد وأن الغضب والعذاب يلحقانهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم " وأولئك هم الغافلون " الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها .
" ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون " .
" ثم إن ربك " دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك وهم عمار وأصحابه . ومعنى : إن ربك لهم أنه لهم لا عليهم بمعنى أنه وليهم وناصرهم لا عدوهم وخاذلهم كما يكون الملك للرجل لا عليه فيكون محميا منفوعا غير مضرور " من بعد ما فتنوا " بالعذاب والإكراه على الكفر . وقرئ : " فتنوا " على البناء للفاعل أي : بعدما عذبوا المؤمنين كالحضرمي وأشباهه " من بعدها " من بعد هذه الأفعال وهي الهجرة والجهاد والصبر " يوم تأتي " منصوب برحيم . أو بإضمار اذكر . فإن قلت : ما معنى النفس المضافة إلى النفس ؟ قلت : يقال لعين الشيء وذاته نفسه وفي نقيضه غيره والنفس الجملة كما هي فالنفس الأولى هي الجملة والثانية عينها وذاتها فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره كل يقول : نفسي نفسي . ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار عنها كقوله : " هؤلاء أضلونا " الأعراف : 38 ، " ما كنا مشركين " الأنعام : 23 ، ونحو ذلك .
" وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون "