وإذا أنث ففيه وجهان : أنه تكسير نعم . وأنه في معنى الجمع . وقرئ : نسقيكم بالفتح والضم وهو استئناف كأنه قيل : كيف العبرة فقيل نسقيكم " من بين فرث ودم " أي يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله . قيل : إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما . والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها فتجري الدم في العروق واللبن في الضرع وتبقى الفرث في الكرش . فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمل . وسئل شقيق عن الإخلاص فقال : تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم " سائغا " سهل المرور في الحلق ويقال : لم يغص أحد باللبن قط . وقرئ : سيغا بالتشديد . وسيغا بالتخفيف . كهين ولين . فإن قلت : أي فرق بين من الأولى والثانية ؟ قلت : الأولى للتبعيض لأن اللبن بعض ما في بطونها كقولك : أخذت من مال زيد ثوبا . والثانية : لابتداء الغاية لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ فهو صلة لنسقيكم كقولك : سقيته من الحوض ويجوز أن يكون حالا من قوله " لبنا " مقدما عليه فيتعلق بمحذوف أي : كائنا من بين فرث ودم . ألا ترى أنه لو تأخر فقيل : لبنا من بين فرث ودم كان صفة له وإنما قدم لأنه موضع العبرة فهو قمن بالتقديم . وقد احتج بعض من يرى أن المني طاهر على من جعله نجسا لجريه في مسلك البول بهذه الآية وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهرا .
" ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون " .
فإن قلت : بم تعلق قوله " ومن ثمرات النخيل والأعناب " ؟ قلت : بمحذوف تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي : من عصيرها وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه وقوله : " تتخذون منه سكرا " بيان وكشف عن كنه الإسقاء . أو يتعلق بتتخذون ومنه من تكرير الظرف للتوكيد كقولك : زيد في الدار فيها ويجوز أن يكون " تتخذون " صفة موصوف محذوف كقوله : .
جادت بكفى كان من أرمى البشر .
تقديره : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر . فإن قلت : فإلام يرجع الضمير في منه إذا جعلته ظرفا مكررا ؟ قلت : إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كما رجع في قوله تعالى " أو هم قائلون " الأعراف : 4 ، إلى الأهل المحذوف والسكر : الخمر سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا . نحو رشد رشدا ورشدا . قال : .
وجاؤنا بهم سكر علينا ... فأجلى اليوم والسكران صاحى .
وفيه وجهان : أحدهما أن تكون منسوخة . وممن قال بنسخها : الشعبي والنخعي . والثاني : أن يجمع بين العتاب والمنة . وقيل : السكر النبيذ . وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر ويحتج بهذه الآية وبقوله A .
" الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب " وبأخبار جمة . ولقد صنف شيخنا أبو علي الجبائي قدس الله روحه غير كتاب في تحليل النبيذ فلما شيخ وأخذت منه السن العالية قيل له : لو شربت منه ما تتقوى به فأبى . فقيل له : فقد صنفت في تحليله فقال : تناولته الدعارة فسمج في المروءة . وقيل : السكر الطعم وأنشد : .
جعلت أعراض الكرام سكرا .
أي تنقلت بأعراضهم وقيل هو من الخمر وإنه إذا ابترك في أعراض الناس فكأنه تخمر بها . والرزق الحسن : الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك . ويجوز أن يجعل السكر رزقا حسنا كأنه قيل : تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن .
" وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون "