ولأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده فكان الأسف عليه أسفا على من لحق به " وابيضت عيناه " إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر . قيل : قد عمي بصره . وقيل : كان يدرك إدراكا ضعيفا . قرئ : من الحزن ومن الحزن الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض فكأنه حدث من الحزن . قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب . وعن رسول الله A : أنه سأل جبريل عليه السلام : " ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف ؟ قال : وجد سبعين ثكلى . قال : " فما كان له من الأجر " ؟ قال : أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله ساعة قط " .
فإن قلت : كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ ؟ قلت ؟ الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن ولذلك حمد صبره وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن ولقد بكى رسول الله A على ولده إبراهيم وقال : " القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون " وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب . وعن النبي A .
أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه فقيل : يا رسول الله تبكي وقد نهيتنا عن البكاء ؟ فقال : " ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين : صوت عند الفرح وصوت عند الترح " وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره فقيل له قي ذلك فقال : ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب " فهو كظيم " فهو مملوء من الغيط على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم فعيل بمعنى مفعول بدليل قوله " وهو مكظوم " القلم : 48 ، من كظم السقاء إذا شده على ملئه والكظم بفتح الظاء : مخرج النفس . يقال : أخذ بأكظامه .
" قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين " .
" تفتؤا " أراد : لاتفتؤ فحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات لأنه لو كان إثباتا لم يكن بد من اللام والنون . ونحوه : .
فقلت يمين الله أبرح قاعدا .
ومعنى لا تفتؤ : لا تزال . وعن مجاهد : لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين يقال : ما فتئ يفعل . قال أوس : .
فما فتئت خيل تثوب وتدعي ... ويلحق منها لاحق وتقطع .
" حرضا " مشفيا على الهلاك مرضا وأحرضه المرض ويستوي فيه الواحد والجمع المذكر والمؤنث لأنه مصدر . والصفة : حرض بكسر الراء ونحوهما : دنف ودنف جاءت القراءة بهما جميعا . وقرأ الحسن : حرضا بضمتين ونحوه في الصفات : رجل جنب وغرب .
" قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون " .
البث : أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس أي ينشره . ومنه : باثه أمره وأبثه إياه . ومعنى " إنما اشكوا " إني لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم إنما أشكو إلى ربي داعيا له وملتجئأ إليه فخلوني وشكايتي . وهذا معنى توليه عنهم أي فتولى عنهم إلى الله والشكاية إليه . وقيل : دخل على يعقوب جاز له فقال : يا يعقوب قد تهشمت وفنيت وبلغت من السن ما بلغ أبوك فقال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف فأوحى الله إليه : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي ؟ قال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفر لي فغفر له فكان بعد ذلك إذا سئل قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله . وروي أنه أوحي إلى يعقوب : إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه وإن أحب خلقي إلي الأنبياء ثم المساكين فاصنع طعاما وادع عليه المساكين . وقيل : اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت " واعلم من الله ما لا تعلمون " أي أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به أنه يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب . وروي أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ فقال : لا والله هو حي فاطلبه . وقرأ الحسن : وحزني بفتحتين وحزني بضمتين : قتادة .
" يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون "