ومعنى " خلصوا " اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم " نجيا " ذوي نجوى أو فوجا نجيا أي مناجيا لمناجاة بعضهم بعضا . وأحسن منه أنهم تمحضوا تناجيا لاستجماعهم لذلك وإفاضتهم فيه بجد واهتمام كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته وكان تناجيهم في تدبير أمرهم على أي صفة يذهبون ؟ وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم ؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب فاحتاجوا إلى التشاور " كبيرهم " في السن وهو روبيل وقيل رئيسهم وهو شمعون : وقيل كبيرهم في العقل والرأي وهو يهوذا " ما فرطتم في يوسف " فيه وجوه : أن تكون ما صلة أي : ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم . وأن تكون مصدرية على أن محل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف وهو " من قبله " ومعناه : ووقع من قبل تفريطكم في يوسف . أو النصب عطفا على مفعول " ألم تعلموا " وهو " أن أباكم " كأنه قيل : ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا وتفريطكم من قبل في يوسف وأن تكون موصولة بمعنى : من قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في حق يوسف من الجناية العظيمة ومحله الرفع النصب على الوجهين " فلن أبرح الأرض " فلن أفارق أرض مصر " حتى يأذن لي أبي " في الانصراف إليه " أو يحكم الله لي " بالخروج منها أو بالانتصاف ممن أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب " وهو خير الحاكمين " لأنه لا يحكم أبدا إلا بالعدل والحق .
" ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين " .
وقرئ : سرق أي نسب إلى السرقة " وما شهدنا " عليه بالسرقة " إلا بما علمنا " من سرقته وتيقناه لأن الصواع استخرج من وعائه ولا شيء أبين من هذا " وما كنا للغيب حافظين " وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق . أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف . ومن قرأ : سرق فمعناه : وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق وما كنا للغيب : للأمر الخفي حافظين أسرق بالصحة أم دس الصاع في رحله ولم يشعر .
" وسل أهل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها إنا لصادقون قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم " .
" القرية التي كنا فيها " هي مصر أي أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة " والعير التي أقبلنا فيها " وأصحاب العير وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب . وقيل من أهل صنعاء معناه : فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم ف " قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا " أردتموه وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم " بهم جميعا " بيوسف وأخيه وروبيل أو غيره " إنه هو العليم " بحالي في الحزن والأسف " الحكيم " الذي لم يبتلني بذلك إلا لحكمة ومصلحة .
" وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم " .
" وتولى عنهم " وأعرض عنهم كراهة لما جاؤا به " يا أسفي " أضاف الأسف وهو أشد الحزن والحسرة إلى نفسه والألف بدل من ياء الإضافة والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعا غير متعمل فيملح ويبدع ونحوه " اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم " التوبة : 38 ، " وهم ينهون عنه وينأون عنه " الأنعام : 26 ، " يحسبون أنهم يحسنون " الكهف : 104 ، " من سبأ بنبأ " النمل : 22 ، وعن النبي A : " لم تعط أمة من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة إلا أمة محمد A . ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع . وإنما قال يا أسفي " . فإن قلت : كيف تأسف على يوسف دون أخيه ودون الثالث والرزء الأحدث أشد على النفس وأظهر أثرا قلت : هو دليل على تمادي أسفه على يوسف وأنه لم يقع فائت عنده موقعه وأن الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضا عنده طريا .
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده