" رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة " فإن قلت . كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر ويكون تبعا له وتحت أمره وطاعته ؟ قلت : روى مجاهد أنه كان قد أسلم : وعن قتادة . هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه . وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق . فله أن يستظهر به . وقيل : كان الملك يصدر عن رأيه . ولا يعترض عليه في كل ما رأى فكان في حكم التابع له والمطيع .
" وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبؤا منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين " .
" كذلك " ومثل ذلك التمكين الظاهر " مكنا ليوسف " في أرض مصر . روي أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين " يتبوأ منها حيث يشاء " قرئ بالنون والياء أي : كل مكان أراد أن يتخذه منزلا ومتبوا له لم يمنع منه لاستيلائه على جميعها ودخوله تحت ملكته وسلطانه . روي : أن الملك توجه وختمه بخاتمه ورداه بسيفه . ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت . روي أنه قال له : أما السرير فأشد به ملكك . وأما الخاتم فأدبر به أمرك وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي . فقال : قد وضعته إجلالا لا وإقرارا بفضلك . فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير ثم مات بعده فزوجه الملك امرأته زليخا فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيرا مما طلبت ؟ فوجدها عذراء فولدت له ولدين : إفراثيم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبه الرجال والنساء وأسلم علىيديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم جميعا فقالوا والله ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم منه فقال الملك كيف رأيت صنع إلله بي فيما خولني فما ترى قال الرأي رأيك : قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس . وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب أرض مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا واحتبس بنيامين " برحمتنا " بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم " من نشاء " من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك " ولا نضيع أجر المحسنين " أن نأجرهم في الدنيا .
" ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون " .
" ولأجر الآخرة خير " لهم . قال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق وتلا هذه الآية .
" وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون " .
لم يعرفوه لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة ولاعتقادهم أنه قد هلك ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه واهتمامهم بشأنه ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حاله التي فارقوه عليها طريحا في البئر مشريا بدراهم معدودة حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم ولأن الملك مما يبدل الزي ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف . وقيل : رأوه على زي فرعون عليه ثياب الحرير جالسا على سرير في عنقه طوق من ذهب وعلى رأسه تاج فما خطر ببالهم أنه هو . وقيل : ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج وإنما عرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريبا من زيهم إذ ذاك ولأن همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم فكان يتأمل ويتفطن . وعن الحسن : ما عرفهم حتى تعرفوا له .
" ولما جهزهم بجهازهم قال أتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون " .
" ولما جهزهم بجهازهم " أي أصلحهم بعدتهم وهي عدة السفر من الزاد وما يحتاج إليه المسافرون وأوقر ركائبهم بما جاءوا من الميرة . وقرئ : بجهازهم بكسر الجيم " قال أتوني بأخ لكم من أبيكم " لا بد من مقدمة سبقت له معهم حتى اجتر القول هذه المسألة