" أنا سيد ولد آدم ولا فخر " وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته فقال " وما أبرئ نفسي " من الزلل وأشهد لها بالبراءة الكلية ولا أزكيها . ولا يخلو إما أن يريد في هذه الحادثة لما ذكرنا من الهم الذي هو ميل النفس عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق القصد والعزم . وإما أن يريد به عموم الأحوال " إن النفس لأمارة بالسوء " أراد الجنسي أي إن هذا الجنس يأمر بالسوء ويحمل عليه بما فيه من الشهوات " إلا ما رحم ربي " إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة . ويجوز أن يكون " ما رحم " في معنى الزمن أي : إلا وقت رحمة ربي يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت وأوان إلا وقت العصمة . ويجوز أن يكون استثناء منقطعا أي : ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة كقوله : " ولا هم ينقذون إلا رحمة " ياسين : 43 ، وقيل معناه : ذلك ليعلم أني لم أخنه لأن المعصية خيانة . وقيل : هو من كلام امرأة العزيز أي ذلك الذي قلت ليعلم يوسف أني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال الغيبة وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه وما أبريء نفسي مع ذلك من الخيانة فإني قد خنته حين قرفته وقلت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن وأودعته السجن تريد الاعتذار مما كان منها إن كل نفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي : إلا نفسا رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف " إن ربي غفور رحيم " استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت . فإن قلت : كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك ؟ قلت : كفى بالمعنى دليلا قائدا إلى أن يجعل من كلامه ونحوه قوله : " قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره " الشعراء : 35 ، ثم قال : " فماذا تأمرون " الشعراء : 35 ، وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم . وعن ابن جريج : هذا من تقديم القرآن وتأخيره ذهب إلى أن " ذلك ليعلم " يوسف : 52 ، متصل بقوله : " فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن " يوسف : 50 ، ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة فزعموا أن يوسف حين قال : " أني لم أخنه بالغيب " يوسف : 52 ، قال له جبريل : ولا حين هممت بها وقالت له امرأة العزيز : ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله .
" وقال الملك أتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين " .
يقال استخلصه واستخصه إذا جعله خالصا لنفسه وخاصا به " فلما كلمه " وشاهد منه ما لم يحتسب " قال " أيها الصديق " إنك اليوم لدينا مكين " ذو مكانة ومنزلة " أمين " مؤتمن على كل شيء . روي أن الرسول جاءه فقال : أجب الملك فخرج من السجن ودعا لأهله : اللهم أعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات . وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثيابا جددا فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان ؟ قال لسان آبائي وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه وقال : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك . فقال : رأيت بقرات فوصف لونهن وأحوالهن ومكان خروجهن ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفا وقال له : من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك .
" قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " .
" اجعلني على خزائن الأرض " ولني خزائن أرضك " إني حفيظ عليم " أمين أحفظ ما تستحفظنيه عالم بوجوه التصرف وصفا لنفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا . وعن النبي A :