لما استعبراه ووصفاه بالإحسان افترص ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء وهو الإخبار بالغيب وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما ويقول : اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت فيجدانه كما أخبرهما وجعل ذلك تخلصا إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما ويقبح إليهما الشرك بالله وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولا ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده وغرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين لم يكن من باب التزكية " بتأويله " ببيان ماهيته وكيفيته ؟ لأن ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه " ذلكما " إشارة لهما إلى التأويل أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات " مما علمني ربي " وأوحى به إلي ولم أقله عن تكهن وتنجم " إني تركت " يجوز أن يكون كلاما مبتدأ وأن يكون تعليلا لما قبله . أي علمني ذلك وأوحي إلي ؟ لأني رفضت ملة أولئك واتبعت ملة الأنبياء المذكورين وهي الملة الحنيفية وأراد بأولئك الذين لا يؤمنون : أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصا كافرون بالآخرة وأن غيرهم كانوا قوما مؤمنين بها وهم الذين على ملة إبراهيم ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيها على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء ويجوز أن يكون فيه تعريض بما مني به من جهتهم حين أودعوه السجن بعد ما رأوا الآيات الشاهدة على براءته وأن ذلك ما لا يقدم عليه إلا من هو شديد الكفر بالجزاء وذكر آباءه ليريهما أنه من بيت النبوة بعد أن عرفهما أنه نبي يوحى إليه بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوي رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله : " ما كان لنا " ما صح لنا معشر الأنبياء " أن نشرك بالله " أي شيء كان من ملك أو جني أو إنسي فضلا عن أن نشرك به صنما لا يسمع ولا يبصر ثم قال " ذلك " التوحيد " من فضل الله علينا وعلى الناس " أي على الرسل وعلى المرسل إليهم ؟ لأنهم نبهوهم عليه وأرشدوهم إليه " ولكن أكثر الناس " المبعوث إليهم " لا يشكرون " فضل الله فيشركون ولا يتنبهون وقيل : إن ذلك من فضل الله علينا لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدل بها . وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس من غير تفاوت ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يستدلون اتباعا لأهوائهم فيبقون كافرين غير شاكرين .
" يا صاحبي السجن أرباب متفرقون خير أم الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " .
" يا صاحبي السجن " يريد يا صاحبي في السجن فأضافهما إلى السجن كما تقول : يا سارق الليلة فكما أن الليلة مسروق فيها غير مسروقة فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام ونحوه قولك لصاحبيك : يا صاحبي الصدق فتضيفهما إلى الصدق ولا تريد أنهما صحبا الصدق ولكن كما تقول رجلا صدق وسميتهما صاحبين لأنهما صحباك . ويجوز أن يريد : يا ساكني السجن كقوله : " أصحاب النار وأصحاب الجنة " الحشر : 20 ، " أرباب متفرقون " يريد التفرق في العدد والتكاثر . يقول أأن تكون لكما أرباب شتى يستعبدكما هذا ويستعبدكما هذا " خير " لكما " أم " أن يكون لكما رب واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية بل هو " القهار " الغالب وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام " ما تعبدون " خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر " إلا أسماء " يعني أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة ثم طفقتم تعبدونها فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها . ومعنى " سميتموها " سميتم بها . يقال : سميته بزيد وسميته زيدا " ما أنزل الله بها " أي بتسميتها " من سلطان " من حجة " إن الحكم " في أمر العبادة والدين " إلا لله " ثم بين ما حكم به فقال " أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم " الثابت الذي دلت عليه البراهين