قال كعب : لما قفل رسول الله A سلمت عليه فرد علي كالمغضب بعد ما ذكرني وقال : " ليت شعري ما خلف كعبا " ؟ فقيل له : ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه . فقال معاذ : " بئس ما قلت والله يا رسول الله " ما أعلم إلا فضلا وإسلاما ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع : أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا وكنت كما وصفني ربي " ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم " وتتابعت البشارة فلبست ثوبي وانطلقت إلى رسول الله A فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمين فقام إلى طلحة وقال رسول الله صلى الله وسلم وهو يستنير استنارة القمر : " أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه .
" يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا تنفقوا نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون " .
" مع الصادقين " وقرئ : من الصادقين وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولا وعملا أو الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم لله ورسوله علىالطاعة من قوله : " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " الأحزاب : 23 ، وقيل : هم الثلاثة أي كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم . وعن ابن عباس رضي الله عنه : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي كونوا مع المهاجرين والأنصار ووافقوهم وانتظموا في جملتهم واصدقوا مثل صدقهم . وقيل لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك . وعن ابن مسعود Bه : لا يصلح الكذب في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجزه .
اقرءوا إن شئتم : وكونوا مع الصادقين فهل فيها من رخصة ؟ " ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه " أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه علما بأنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه . فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهول وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ولا يكترث لها أصحابها ولا يقيموا لها وزنا وتكون أخص شيء عليهم وأهونه فضلا عن أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم وتوبيخ لهم عليه وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية " ذلك " إشارة إلى ما دل عليه قوله : ما كان لهم أن يتخلفوا من وجوب مشايعته كأنه قيل ذلك الوجوب " ب " سبب " أنهم لا يصيبهم " شيء من عطش ولا تعب ولا مجاعة في طريق الجهاد ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم . ولا يتصرفون في أرضهم تصرفا يغيظهم ويضيق صدورهم " لا ينالون من عدو نيلا " ولا يرزءونهم شيئا بقتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة أو غير ذلك " إلا كتب لهم فيه عمل صالح " واستوجبوا الثواب ونيل الزلفى عند الله وذلك مما يوجب المشايعة . ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة لا الوطء بالأقدام والحوافر كقوله عليه السلام : " آخر وطأة وطئها الله بوج " والموطئ . إما مصدر كالمورد وإما مكان فإن كان مكانا فمعنى يغيظ الكفار : يغيظهم وطئه والنيل أيضا يجوز أن يكون مصدرا مؤكدا وأن يكون بمنعى المنيل . ويقال : نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام في كل ما يسؤوهم وينكبهم ويلحق بهم ضررا . وفيه دليل على أن من قصد خيرا كان سعيه فيه مشكورا من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك وكذلك الشر . وبهذه الآية استشهد أصحاب أبي حنيفة أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك لنا الجيش في الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم وينكي فيهم