" بعضهم من بعض " أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم : " ويحلفون بالله إنهم لمنكم " التوبة : 56 ، وتقرير قوله : " وما هم منكم " التوبة : 56 ، ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين " يأمرون بالمنكر " بالكفر والمعاصي " وينهون عن المعروف " عن الإيمان والطاعات " ويقبضون أيديهم " شحا بالمبار والصدقات والإنفاق في سبيل الله " نسوا الله " أغفلوا ذكره " فنسيهم " فتركهم من رحمته وفضله " هم الفاسقون " هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير وكفى المسلم زاجرا أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم وإذا كره رسول الله A للمسلم أن يقول كسلت لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله : " كسالى " النساء : 142 ، فما ظنك بالفسق " خالدين فيها " مقدرين الخلود " هي حسبهم " دلالة على عظم عذابها وإنه لا شيء أبلغ منه وأنه بحيث لا يزاد عليه نعوذ بالله من سخطه وعذابه " ولعنهم الله " وأهانهم من التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المكرمين " ولهم عذاب مقيم " ولهم نوع من العذاب سوى الصلي بالنار مقيم دائم كعذاب النار . ويجوز أن يريد : ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه وهو ما يقاسونه من تعب النفاق والظاهر المخالف للباطن خوفا من المسلمين وما يحذرونه أبدا من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم .
" كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقكم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون " .
الكاف محلها رفع على : أنتم مثل الذين من قبلكم . أو نصب على : فعلتم ما فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا . ونحوه قول النمر : .
كاليوم مطلوبا لا طلبا .
بإضمار لم أر وقوله : " كانوا أشد منكم قوة " تفسير لتشبيههم بهم وتمثيل فعلم بفعلهم . والخلاق : النصيب وهو ما خلق للإنسان أي قدر من خير كما قيل له قسم لأنه قسم ونصيب لأنه نصب أي أثبت . أو الخوض : الدخول في الباطل واللهو " كالذين خاضوا " كالفوج الذي خاضوا وكالخوض الذي خاضوه . فإن قلت : أي فائدة في قوله : " فاستمتعوا بخلاقهم " وقوله : " كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقكم " مغن عنه كما أغنى قوله : " كالذين خاضوا " عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا ؟ قلت : فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الرضى به ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول : أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل فعله . و " وخضتم كالذي خاضوا " فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة " حبطت أعمالكم في الدنيا والآخرة " نقيض قوله : " وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين " العنكبوت : 27 .
" ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " .
" وأصحاب مدين " وأهل مدين وهم قوم شعيب " والمؤتفكات " مدائن قوم لوط . وقيل : قريات قوم لوط وهود وصالح . وائتفاكهن : انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر " فما كان الله ليظلمهم " فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح وأن يعاقبهم بغير جرم ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه .
" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله ذلك هو الفوز العظيم "