" أنفقوا " يعني في سبيل الله ووجوه البر " طوعا أو كرها " نصب على الحال أي طائعين أو مكرهين . فإن قلت : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : " لن يتقبل منكم " ؟ قلت : هو أمر في معنى الخبر كقوله تبارك وتعالى : " قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا " مريم : 75 ، ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها . ونحوه قوله تعالى : " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم " التوبة : 80 ، وقوله : .
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة .
أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت . فإن قلت : متى يجوز نحو هذا ؟ قلت : إذا دل الكلام عليه كما جاز عكسه في قولك : رحم الله زيدا وغفر له فإن قلت : لم فعل ذلك ؟ قلت : لنكتة فيه وهي أن كثيرا كأنه يقول لعزة : امتحني لطف محلك عندي وقوة محبتي لك وعامليني بالإساءة . والإحسان وانظري هل يتفاوت حالي معك مسيئة كنت أو محسنة ؟ وفي معناه قول القائل : .
أخوك الذي إن قمت بالسيف عامدا ... لتضربه لم يستفثك في الود .
وكذلك المعنى : أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم ؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه ؟ فإن قلت : ما الغرض في نفي التقبل ؟ أهو ترك رسول الله A تقبله منهم ورده عليهم ما يبذلون منه ؟ أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ذاهبا هباء لا ثواب له ؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعا . وقوله : " طوعا أو كرها " معناه طائعين . من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين . وسمي الإلزام إكراها لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه . أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم . وروي : أنها نزلت في الجد بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله A : هذا مالي أعينك به فاتركني " إنكم " تعليل لرد إنفاقهم . والمراد بالفسق : التمرد والعتو .
" وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون " .
" إنهم " فاعل منع . وهم وأن تقبل مفعولاه . وقرئ : " أن تقبل بالتاء والياء على البناء للمفعول . ونفقاتهم ونفقتهم على الجمع والتوحيد . وقرأ السلمي : " أن يقبل منهم نفقاتهم " على أن الفعل لله D " كسالى " بالضم والفتح جمع كسلان نحو سكارى وغيارى في جمع سكران وغيران وكسلهم لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثوابا ولا يخشون بتركها عقابا فهي ثقيلة عليهم كقوله تعالى : " وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين " البقرة : 45 ، وقرأت في بعض الأخبار : أن رسول الله A كره للمؤمن أن يقول : كسلت . كأنه ذهب إلى هذه الآية فإن الكسل من صفات المنافقين فما ينبغي أن يسنده المؤمن إلى نفسه . فإن قلت : الكراهية خلاف الطواعية وقد جعلهم الله تعالى طائعين في قوله " طوعا " ثم وصفهم بأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون . قلت : المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله A أو من رؤسائهم وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار لا عن رغبة واختيار .
" فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " .
الإعجاب بالشيء : أن يسر به سرور راض به متعجب من حسنه . والمعنى : فلا تستحسن ولا تفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا كقوله تعالى : " ولا تمدن عينيك " طه : 131 ، فإن الله تعالى إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب بأن عرضه للتغنم والسبي وبلاهم فيه بالآفات والمصائب وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له على رغم أنوفهم وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم . فإن قلت : إن صح تعليق التعذيب بإرادة الله تعالى فما بال زهوق أنفسهم " وهم كارهون " ؟ قلت : المراد الاستدراج بالنعم كقوله تعالى : " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " آل عمران : 178 ، كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة .
" يحلفوا بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه مهم يجمحون "