أي ليكونن أحد الأمرين : إما إخراجكم ؟ وإما عودكم في الكفر . فإن قلت : كيف خاطبوا شعيبا عليه السلام بالعود في الكفر في قولهم : " أو لتعودن في ملتنا " وكيف أجابهم بقوله : " إن عدنا في ملتكم من بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها " والأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم من الصغائر إلا ما ليس فيه تنفير فضلا عن الكبائر فضلا عن الكفر ؟ قلت : لما قالوا : " لنخرجنك يا شعيب والذين لآمنوا معك " فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم قالوا : " لتعودن " فغلبوا الجماعة على الواحد فجعلوهم عائدين جميعا إجراء للكلام على حكم التغليب . وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه فقال : " إن عدنا في ملتكم من بعد إذ نجانا الله منها " وهو يريد عود قومه إلا أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئا من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب . فإن قلت : فما معنى قوله " وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن شاء الله " والله تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم في الكفر ؟ قلت : معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الألطاف لعلمه أنها لا تنفع فينا وتكون عبثا . والعبث قبيح لا يفعله الحكيم والدليل عليه قوله : " وسع ربنا كل شيء علما " أي هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول وقلوبهم كيف تتقلب ؟ وكيف تقسو بعد الرقة وتمرض بعد الصحة وترجع إلى الكفر بعد الإيمان " على الله توكلنا " في أن يثبتنا على الإيمان ويوقفنا لازدياد الإيقان . ويجوز أن يكون قوله : " إلا أن شاء الله " حسما لطمعهم في العود لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة " أولو كنا كارهين " الهمزة للاستفهام والواو واو الحال تقديره : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا ومع كوننا كارهين . وما يكون لنا وما ينبغي لنا . وما يصح لنا " ربنا افتح بيننا " احكم بيننا . والفتاحة : الحكومة أو أظهر أمرنا حتى يتفتح ما بيننا " وبين قومنا " وينكشف بأن تنزل عليهم عذابا يتبين معه أنهم على الباطل " وأنت خير الفاتحين " كقوله : " وهو خير الحاكمين " يونس : 109 ، . فإن قلت : كيف أسلوب قوله : " قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم " ؟ قلت : هو إخبار مقيد بالشرط وفيه وجهان أحدهما : أن يكون كلاما مستأنفا فيه معنى التعجب كأنهم قالوا : ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام . لأن المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر لأن الكافر مفتر على الله الكذب . حيث يزعم أن لله ندا ولا ند له . والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل . والثاني : أن يكون قسما على تقدير حذف اللام بمعنى : والله لقد افترينا على الله كذبا .
" وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين الذين كذبوا شعيبا كأن لم تغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين " .
" وقال الملأ الذين كفروا من قومه " أي أشرافهم للذين دونهم يثبطونهم عن الإيمان " لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون " لاستبدالكم الضلالة بالهدى كقوله تعالى : " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم " البقرة : 16 ، وقيل : تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية فإن قلت : ما جواب القسم الذي وطأته اللام في " لئن اتبعتم شعيبا " وجواب الشرط ؟ قلت : قوله : " إنكم إذا لخاسرون " ساد مسد الجوابين " الذين كذبوا شعيبا " مبتدأ خبره " كأن لم يغنوا فيها " وكذلك " كانوا هم الخاسرين " وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل : الذين كذبوا شعيبا هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في دارهم ؟ لأن الذين اتبعوا شعيبا قد أنجاهم الله الذين كذبوا شعيبا هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه فإنهم الرابحون . وفي هذا الاستئناف والابتداء وهذا التكرير : مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم .
" فتولى عنهم وقال يا قوم أبلغكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف أسى على قوم كافرين " .
الأسى : شدة الحزن . قال العجاج : .
وانحلت عيناه من فرط الأسى