قلت : إنما كان ذلك لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى قد عند استماع المخاطب كلمة القسم . قيل : أرسل نوح عليه السلام وهو ابن خمسين سنة وكان نجارا وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ اسم إدريس النبي عليه السلام . وقرئ : غيره بالحركات الثلاث فالرفع على المحل كأنه قيل : ما لكم إله غيره . والجر على اللفظ والنصب على الاستثناء بمعنى : ما لكم من إله إلا إياه كقولك : ما في الدار من أحد إلا زيد أو غير زيد . فان قلت : فما موقع الجملتين بعد قوله : " اعبدوا الله " ؟ قلت : الأولى بيان لوجه اختصاصه بالعبادة . والثانية : بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله واليوم العظيم يوم القيامة أو يوم نزول العذاب عليهم وهو الطوفان .
" قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قومي ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون " .
" الملأ " الأشراف والسادة وقيل : الرجال ليس معهم النساء " في ظلال " في ذهاب عن طريق الصواب والحق . ومعنى الرؤية : رؤية القلب . فإن قلت : لم قال : " ليس بي ضلالة " ولم يقل ضلال كما قالوا ؟ قلت : الضلالة أخص من الضلال فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه كأنه قال : ليس بي شيء من الضلال كما لو قيل لك : ألك تمر فقلت : ما لي تمرة فإن قلت : كيف وقع قوله : " ولكني رسول " استدراكا للانتفاء عن الضلالة . قلت : كونه رسولا من الله مبلغا رسالاته ناصحا في معنى كونه على الصراط المستقيم فصح لذلك أن يكون استدراكا للانتفاء عن الضلالة . وقرئ : " أبلغكم " بالتخفيف . فإن قلت : كيف موقع قوله : " أبلغكم " ؟ قلت : فيه وجهان . أحدهما : أن يكون كلاما مستأنفا بيانا لكونه رسول رب العالمين . والثاني : أن يكون صفة لرسول . فإن قلت : كيف جاز أن يكون صفة والرسول لفظه لفظ الغائب ؟ قلت : جاز ذلك لأن الرسول وقع خبرا عن ضمير المخاطب وكان معناه كما قال : .
أنا الذي سمتني أمي حيدره .
" رسالات ربي " ما أوحي إلي في الأوقات المتطاولة أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر . ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جده إدريس وهي ثلاثون صحيفة ومن صحف شيث وهي خمسون صحيفة " وأنصح لكم " يقال نصحته ونصحت له . وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت خالصة للمنصوح له مقصودا بها جانبه لا غير فرب نصيحة ينتفع بها الناصح فيقصد النفعين جميعا ولا نصحية أمحض من نصيحة الله تعالى ورسله عليهم السلام " وأعلم من الله ما لا تعلمون " أي من صفات الله وأحواله يعني قدرته الباهرة وشدة بطشه على أعدائه وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين . وقيل : لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين لا يعلمون ما علمه نوح بوحي الله إليه أو أراد : وأعلم من جهة الله أشياء لا علم لكم بها قد أوحى إلي بها .
" أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا لعلكم ترحمون " .
" أو عجبتم " الهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف كأنه قيل : كذبتم وعجبتم " أن جاءكم " من أن جاءكم " ذكر " موعظة " من ربكم على رجل منكم " على لسان رجل منكم كقوله : " ما وعدتنا على رسلك " آل عمران : 194 ، وذلك أنهم كانوا يتعجبون من نبؤة نوح عليه السلام ويقولون : ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين يعنون إرسال البشر ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة " لينذركم وتتفوا " ليحذركم عاقبة الكفر وليوجد منكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار " ولعلكم ترحمون " ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم .
" فكذبوا وأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين "