" فبما أغويتني " فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم . وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغي ولم يثبت كما ثبتت الملائكة مع كونهم أفضل منه ومن آدم أنفسا ومناصب وعن الأصم : أمرتني بالسجود فحملني الأنف على معصيتك . والمعنى : فبسبب وقوعي في الغي لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم . فإن قلت : بم تعلقت الباء فإن تعلقها بلأقعدن يصد عنه لام القسم لا تقول : والله بزيد لأمرن ؟ قلت : تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره : فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدن أي فبسبب إغوائك أقسم . ويجوز أن تكون الباء للقسم أي : فأقسم بإغوائك لأقعدن وإنما أقسم بالإغواء ؟ لأنه كان تكليفا والتكليف من أحسن أفعال الله لكونه تعريضا لسعادة الأبد فكان جديرا بأن يقسم به . ومن تكاذيب المجبرة ما حكوه عن طاوس : أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل من كبار الفقهاء يرمي بالقدر فجلس إليه فقال له طاوس : تقوم أو تقام فقام الرجل فقيل له : أتقول هذا لرجل فقيه ؟ فقال : إبليس أفقه منه قال رب بما أغويتني وهذا يقول : أنا أغوي نفسي وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين . وقيل : " ما " للاستفهام كأنه قيل : بأي شيء أغويتني ثم ابتدئ لأقعدن . وإثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على " ما " الاستفهامية قليل شاذ . وأصل الغي الفساد . ومنه : غوى الفصيل إذا بشم . والبشم : فساد في المعدة " لأقعدن لهم صراطك المستقيم " لأعترضن لهم على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة وانتصابه على الظرف كقوله : .
كما عسل الطريق الثعلب .
وشبهه الزجاج بقولهم : ضرب زيد الظهر والبطن أي على الظهر والبطن . وعن رسول الله A : " إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه : قعد له بطريق الإسلام فقال له : تدع دين آبائك فعصاه فأسلم . ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له : تدع ديارك وتتغرب فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل " ثم لأتينهم " من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الغالب . وهذا مثل لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه كقوله : " واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك " الإسراء : 64 ، . فإن قلت : كيف قيل : " من بين أيديهم ومن خلفهم " بحرف الابتداء " وعن أيمانهم وعن شمائلهم " بحرف المجاوزة ؟ قلت : المفعول فيه عدي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به . فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس . وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه وعلى يمينه وعن شماله وعلى شماله قلنا : معنى " على يمينه " أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه . ومعنى " عن يمينه " أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له . ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره كما ذكرنا في تعال . ونحوه من المفعول به قولهم : رميت عن القوس وعلى القوس ومن القوس لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدئ الرمي منها . كذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى فيه لأنهما ظرفان للفعل . ومن بين يديه ومن خلفه : لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول : جئته من الليل تريد بعض الليل وعن شقيق : ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد : من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي : أما من بين يدي فيقول : لا تخف فإن الله غفور رحيم فأقرأ : " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا طه : 82 ، وأما من خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي فأقرأ : " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " هود : 6 ، وأما من قبل يميني فيأتيني من قبل الثناء فأقرأ : " والعاقبة للمتقين " الأعراف : 128 ، وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ : " وحيل بينهم وبين ما يشتهون " سبأ : 54 ، . " ولا تجد أكثرهم شاكرين " قاله تظنينا بدليل قوله : " ولقد صدق عليهم إبليس ظنه " سبأ : 20 ، وقيل : سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى لهم .
" قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن منكم جهنم أجمعين "