إن جعلت " لله شركاء " مفعولي جعلوا نصبت الجن بدلا من شركاء وإن جعلت " لله " لغوا كان " شركاء الجن " مفعولين قدم ثانيهما على الأول . فإن قلت : فما فائدة التقديم ؟ قلت : فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكا أو جنيا أو إنسيا أو غير ذلك . ولذلك قدم اسم الله على الشركاء . وقرئ : الجن بالرفع كأنه قيل : من هم ؟ فقيل : الجن . وبالجر على الإضافة التي للتبيين . والمعنى أشركوهم في عبادته لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله . وقيل : هم الذين زعموا أن الله خالق الخير وكل نافع وإبليس خالق الشر وكل ضار " وخلقكم " وخلق الجاعلين لله شركاء . ومعناه : وعلموا أن الله خالقهم دون الجن ولم يمنعهم علمهم أن يتخذوا من لا يخلق شريكا للخالق . وقيل : الضمير للجن . وقرئ : وخلقهم أي اختلاقهم الإفك يعني : وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم " والله أمرنا بها " الأعراف : 28 ، " وخرقوا له " وخلقوا له أي افتعلوا له " بنين وبنات " وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير وقول قريش في الملائكة يقال : خلق الإفك وخرقه واختلفه واخترقه بمعنى : وسئل الحسن عنه فقال : كلمة عربية كانت العرب تقولها : كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له بنين وبنات وقرئ : وخرقوا بالتشديد للتكثير لقوله : " بنين وبنات " وقرأ ابن عمر وابن عباس Bهما وحرفوا له بمعنى : وزوروا له أولادا لأن المزور محرف مغير للحق إلى الباطل " بغير علم " من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب ولكن رميا بقول عن عمى وجهالة . من غير فكر وروية .
" بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل خلق عليم " .
" بديع السموات " من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها كقولك : فلان بديع الشعر أي بديع شعره أو هو بديع في السموات والأرض كقولك : فلان ثبت الغدر أي ثابت فيه والمعنى أنه عديم النظير والمثل فيها . وقيل : البديع بمعنى المبدع وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو هو مبتدأ وخبره " أنى يكون له ولد " أو فاعل تعالى وقرئ بالجر ردا على قوله " وجعلوا لله " أو على " سبحانه " . وبالنصب على المدح وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه أحدها : مبدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم يوصف بالولادة لأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والدا . والثاني : أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد وهو متعال عن مجانس فلم يصح أن تكون له صاحبة فلم تصح الولادة . والثالث : أنه ما من شيء وهو خالقه والعالم به ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج . وقرئ : " ولم يكن له صاحبة " وإنما جاز للفصل كقوله : .
لقد ولد الأخيطل أم سوء .
" ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فأعبدوه وهو على كل شيء وكيل " .
" ذلكم " إشارة إلى الموصوف مما تقدم من الصفات وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي " الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء " أي ذلكم الجامع لهذه الصفات " فاعبدوه " مسبب عن مضمون الجملة على معنى : أن من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه . ثم قال : " وهو على كل شيء قدير " يعني وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال .
" لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير " .
البصر : هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله في حاسة النظر به تدرك المبصرات فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه لأنه متعال أن يكون مبصرا في ذاته لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلا أو تابعا كالأجسام والهيآت " وهو يدرك الأبصار " وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك " وهو اللطيف " يلطف عن أن تدركه الأبصار " الخبير " بكل لطيف فهو يدرك الأبصار لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللطف .
" قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ "