" ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " .
مكن له في الأرض : جعل له مكانا فيها . ونحوه : أرض له . ومنه قوله : " إنا مكنا له في الأرض " الكهف : 184 " أو لم نمكن لهم " القصص : 57 ، وأما مكنته في الأرض فأثبته فيها . ومنه قوله : " ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه " الأحقاف : 26 ، ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله : " مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم " والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عادا وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا . والسماء المظلة لأن الماء ينزل منها إلى السحاب أو السحاب أو المطر . والمدرار : المغزار . فإن قلت : أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم قلت : الدلالة على أنه لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخرب بلاده منهم ؟ فإنه قادر على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده كقوله تعالى : " ولا يخاف عقباها " الشمس : 15 .
" ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين وقالوا لولا أنزل عليهم ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون " .
" كتابا " مكتوبا " في قرطاس " في ورق " فلمسوه بأيديهم " ولم يقتصر بهم على الرؤية لئلا يقولوا سكرت أبصارنا ولا تبقى لهم علة . لقالوا " إن هذا إلا سحر مبين " تعنتا وعنادا للحق بعد ظهوره " لقضي الأمر " لقضي أمر إهلاكهم بعد نزوله طرفة عين . إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله A في صورته وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن ثم لا يؤمنون كما قال : " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى " الأنعام : 111 ، لم يكن بد من إهلاكهم كما أهلك أصحاب المائدة وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة فيجب إهلاكهم . وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكا في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون ومعنى " ثم " بعد ما بين الأمرين : قضاء الأمر وعدم الإنظار . جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة " ولو جعلناه ملكا " ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون : لولا أنزل على محمد ملك . وتارة يقولون : " ما هذا إلا بشر مثلكم " المؤمنون : 33 ، " ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة " فصلت : 14 ، " لجعلناه رجلا " لأرسلناه في صورة رجل كما .
كان ينزل جبريل على رسول الله A في أعم الأحوال في صورة دحية .
لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم " وللبسنا عليهم " ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ فإنهم يقولون : إذا رأوا الملك في صورة إنسان : هذا إنسان وليس بملك فإن قال لهم : الدليل على أني ملك أني جئت بالقرآن المعجز وهو ناطق بأني ملك لا بشر كذبوه كما كذبوا محمدا A فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما هم مخذولون الآن فهو لبس الله عليهم . ويجوز أن يراد : " وللبسنا عليهم " حينئذ مثل ما يلبسون على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله البينة : وقرأ ابن محيصن : " ولبسنا عليهم " بلام واحدة . وقرأ الزهري : " وللبسنا عليهم ما يلبسون " بالتشديد .
" ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون " .
" ولق أستهزئ " تسلية لرسول الله A عما كان يلقى من قومه " فحاق " بهم فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزؤون به وهو الحق حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به .
" قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عقبة المكذبين " فإن قلت : أي فرق بين قوله " فانظروا " وبين قوله : " ثم انظروا " قلت : جعل النظر مسببا عن السير في قوله : " فانظروا " فكأنه قيل سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين . وأما قوله : " سيروا في الأرض ثم انظروا " فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين . ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح