" لقد خلفتم بالمدينة أقوما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم " وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وكانت أفئدتهم تهوى إلى الجهاد وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرر أو غيره . فإن قلت : قد ذكر الله تعاى ملضلين درجة ومفضلين درجات فمن هم ؟ قلت : أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم لأن الغزو فرض كفاية . فإن قلت : لم نصب درجة و أجرا و درجات ؟ قلت : نصب قوله : درجة لوقوعها موقع المرة من التفضيل كأنه قيل فضلهم تفضيلة واحدة . ونظيره قولك : ضربه سوطا بمعنى ضربه ضربة . وأما أجرا فقد انتصب بفضل لأنه في معنى أجرهم أجرا ودرجات ومغفرة ورحمة : بدل من أجرا ويجوز أن ينتصب درجات نصب درجة . كما تقول : ضربه أسواطا بمعنى ضربات كأنه قيل : وفضله تفضيلات . ونصب " أجرا عظيما " على أنه حال عن النكرة التي هي درجات مقدمة عليها وانتصب مغفرة ورحمة بإضمار فعلهما بمعنى : وغفر لهم ورحمهم مغفرة ورحمة .
" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا " " توفاهم " يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ : توفتهم . ومضارعا بمعنى تتوفاهم كقراءة من قرأ : توفاهم على مضارع وفيت بمعنى أن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها . أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها " ظالمي أنفسهم " في حال ظلمهم أنفسهم " قالوا " قال الملائكة للمتوفين " فيمكنتم " في أي شيء كنتم من أمر دينكم . وهم ناس من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة . فإن قلت : كيف صح وقوع قوله : " كنا مستضعفين في الأرض " جوابا عن قولهم : " فيم كنتم " ؟ وكان حق الجواب أن يقولوا : كنا في كذا أو لم نكن في شيء ؟ قلت : معنى " فيم كنتم " التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا فقالوا : كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به واعتلالا بالاستضعاف وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء فبكتتهم الملائكة بقوله : " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ومن الهجرة إلى رسول الله A كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة . وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله وأدوم على العبادة - حقت عليه المهاجرة . وعن النبي A : " من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام " . اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني فاجعلها سببا في خاتمة الخير ودرك المرجو من فضلك والمبتغى من رحمتك وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة في الخروج لفقرهم وعجزهم ولا معرفة لهم بالمسالك . وروي : أن رسول الله A بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة فقال جندب بن ضمرة أو ضمرة بن جندب لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدي الطريق والله لا أبيت الليلة بمكة . فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم