" أن نطمس وجوها " أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم " فنردها على أدبارها " فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها . والفاء للتسبيب وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بعقابين : أحدهما عقيب الآخر ردها على أدبارها بعد طمسها ؛ فالمعنى أن نطمس وجوها فننكسها الوجوه إلى خلف والأقفاء إلى قدام . ووجه آخر : وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير كما طمس أموال القبط فقلبها حجارة . وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم أو نردهم إلى حيث جاؤا منه . وهي : أذرعات الشام يريد : إجلاء بني النضير . فإن قلت : لمن الراجع في قوله : أو نلعنهم ؟ قلت : للوجوه إن أريد الوجهاء أو لأصحاب الوجوه . لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم أو يرجع إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات " أو نلعنهم " أو نجزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت . فإن قلت : فأين وقوع الوعيد . قلت : هو مشروط بالإيمان . وقد آمن منهم ناس . وقيل : هو منتظر ولابد من طمس ومسخ لليهود قبل يوم القيامة ولأن الله D أوعدهم بأحد الأمرين بطمس وجوه منهم أو بلعنهم فإن الطمس تبديل أحوال رؤسائهم أو إجلاؤهم إلى الشام فقد كان أحد الأمرين وإن كان غيره فقد حصل اللعن . فإنهم ملعونون بكل لسان والظاهر اللعن المتعارف دون المسخ ألا ترى إلى قوله تعالى : " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير " المائدة : 60 ، " وكان أمر الله مفعولا " فلابد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا .
" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " فإن قلت : قد ثبت أن الله D يغفر الشرك لمن تاب منه وأنه لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلا بالتوبة فما وجه قول الله تعالى : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ؟ قلت : الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعا موجهين إلى قوله تعالى : " لمن يشاء " كأنه قيل : إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك على أن المراد بالأول من لم يتب وبالثاني من تاب . ونظيره قولك : إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء . تريد : لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ويبذل القنطار لمن يستأهله " فقد افترى إثما " أي ارتكبه وهو مفتر مفتعل ما لا يصح كونه .
" ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا " " الذين يزكون أنفسهم " اليهود والنصارى قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه وقالوا : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى . وقيل : جاء رجال من اليهود إلى رسول الله A بأطفالهم فقالوا : هل على هؤلاء ذنب ؟ قال : لا . قالوا : والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل وما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار . فنزلت . ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله . فإن قلت : أما قال رسول الله A : " والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض " ؟ قلت : إنما قال ذلك : حين قال له المنافقون : اعدل في القسمة إكذابا لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه وشتان من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم " بل الله يزكي من يشاء " إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتد بها . لا تزكية غيره لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية . ومعنى يزكي من يشاء : يزكي المرتضين من عباده الذين عرف منهم الزكاء فوصفهم به " ولا يظلمون فتيلا " أي الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم . أو من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم . ونحوه " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " النجم : 32 ، " كيف يفترون على الله الكذب " في زعمهم أنهم عند الله أزكياء " وكفى " بزعمهم هذا " إثما مبينا " من بين سائر آثامهم .
" ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا "