أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن وجعل قوله : " إنا جعلناه قرآنا عربيا " جوابا للقسم وهو من الأيمان الحسنة البديعة لتناسب القسم والمقسم عليه وكونهما من واد واحد . ونظيره قول أبي تمام : .
وثناياك إنها أغريض .
" المبين " البين للذين أنزل عليهم لأنه بلغتهم وأساليبهم . وقيل : الواضح للمتدبرين . وقيل : المبين الذي أبان طرق لهدى من طرق الضلالة وأبان ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة " جعلناه " بمعنى صيرناه معدى إلى مفعولين . أو بمعنى خلقناه معدى إلى واحد كقوله تعالى : " وجعل الظلمات والنور " الأنعام : ا . " قرآنا عربيا " حال . ولعل : مستعار لمعنى الإرادة لتلاحظ معناها ومعنى الترجي أي : خلقناه عربيا غير عجمي : إرادة أن تعقله العرب ولئلا يقولوا لولا فصلت آياته وقرئ أم الكتاب بالكسر وهو اللوح كقوله تعالى : " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " البروج : 21 - 22 ، سمي بأم الكتاب لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب منه تنقل وتنتسخ . على رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزا من بينها " حكيم " ذو حكمة بالغة أي : منزلته عنده منزلة كتاب هما صفتاه وهو مثبت في أم الكتاب هكذا .
" أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين " .
" أفنضرب عنكم الذكر صفحا " يعني : أفننحي عنكم الذكر ونذوده عنكم على سبيل المجاز من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض . ومنه قول الحجاج : ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل . وقال طرفة : .
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس .
والفاء للعطف على محفوف تقديره : أنهملكم فنضرب عنكم الذكر إنكارا لأن يكون الأمر على خلاف ما قدم على إنزاله الكتاب . وخلقه قرانا عربيا ليعقلوه ويعملوا بمواجبه . وصفحا على وجهين . إما مصدر من صفح عنه : إذا أعرض منتصب على أنه مفعول له على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم . وإما بمعنى الجانب من قولهم : نظر إليه بصفح وجهه وصفح وجهه على معنى : أفننحيه عنكم جانبا فينتصب على الظرف كما تقول : ضعه جانبا وامش جانبا . وتعضده قراءة من قرأ صفحا بالضم . وفي هذه القراءة وجه آخر : وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح وينتصب على الحال أي : صافحين معرضين " إن كنتم " أي : لأن كنتم . وقرئ إن كنتم وإذ كنتم . فإن قلت : كيف استقام معنى إن الشرطية وقد كانوا مسرفين على البت . قلت : هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته كما يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي وهو عالم بذلك ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق : فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه استجهالا له .
" وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين " .
" وما يأتيهم " حكاية حال ماضية مستمرة أي : كانوا على ذلك . وهذه تسلية لرسول الله A عن استهزاء قومه . الضمير في " أشد منهم " للقوم المسرفين لأنه صرف الخطاب عنهم إلى رسول الله A يخبره عنهم " ومضى مثل الأولين " أي سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تسير مسير المثل وهذا وعد لرسول الله A ووعيد لهم .
" ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون " .
فإن قلت : قوله : " ليقولن خلقهن العزيز العليم " وما سرد من الأوصاف عقيبه إن كان من قولهم فما تصنع بقوله : " فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون " الزخرف : 11 ، وإن كان من قول الله فما وجهه ؟ قلت : هو من قول الله لا من قولهم . ومعنى قوله : " ليقولن خلقهن العزيز العليم " الذي من صفته كيت وكيت لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه وليسندنه إليه . " بقدر " بمقدار يسلم معه البلاد والعباد ولم يكن طوفانا .
" والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون "