" مبصرا " من الإسناد المجازي لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار . فإن قلت : لم قرن الليل بالمفعول له . والنهار بالحال . وهلا كانا حالين أو مفعولا لهما فيراعي حق المقابلة . قلت : هما متقابلان من حيث المعنى لأن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر لأنه لو قيل : لتبصروا فيه فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازي ولو قيل : ساكنا والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة ألا ترى إلى قولهم : ليل ساج وساكن لا ريح فيه لم تتميز الحقيقة من المجاز . فإن قلت : فهلا قيل : لمفضل أو لمتفضل ؟ قلت : لأن الغرض تنكير الفضل وأن يجعل فضلا لا يوازيه فضل وذلك إنما يستوي بالإضافة . فإن قلت : فلو قيل : ولكن أكثرهم فلا يتكرر ذكر الناس ؟ قلت : في هذا التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا يشكرونه كقوله : " إن الإنسان لكفور " الزخرف : 15 ، " إن الإنسان لربه لكنود " العاديات : 6 ، " إن الإنسان لظلوم كفار " إبراهيم : 34 .
" ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون " .
" ذلكم " المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو " الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو " أخبار مترادفة أي : هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلفية والربوبية وخلق كل شيء وإنشائه لا يمتنع عليه شيء والوحدانية : لا ثاني له " فأنى تؤفكون " فكيف ومن أي : وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان . ثم ذكر أن كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه همة طلب الحق وخشية العاقبة : أفك كما أفكوا . وقرئ : خالق كل شيء " نصبا على الاختصاص . وتؤفكون : بالتاء والياء .
" الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين " .
هذه أيضا دلالة أخرى على تميزه بأفعال خاصة وهي أنه جعل الأرض مستقرا " والسماء بناء " أي : قبة . ومنه : أبنية العرب لمضاربهم لأن السماء في منظر العين كقبة مضروبة على وجه الأرض " فأحسن صوركم " وقرئ : بكسر الصاد والمعنى واحد . قيل : لم يخلق حيوانا أحسن صورة من الإنسان . وقيل : لم يخلقهم منكوسين كالبهائم كقوله تعالى : " في أحسن تقويم " التين : 14 ، " فادعوه " فاعبدوه " مخلصين له الدين " أي : الطاعة من الشرك والرياء قائلين : " الحمد لله رب العالمين " وعن ابن عباس Bهما : من قال : لا إله إلا الله فليقل على أثرها : الحمد لله رب العالمين .
" قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين " .
فإن قلت : أما نهى رسول الله A عن عبادة الأوثان بأدلة العقل حتى جاءته البينات من ربه ؟ قلت : بلى ولكن البينات لما كانت مقوية لأدلة العقل ومؤكدة لها ومضمنة ذكرها نحو قوله تعالى : " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " الصافات : 95 - 96 ، وأشباه ذلك من التنبيه على أدلة العقل كان ذكر البينات ذكرا لأدلة أدلة العقل والسمع جميعا وإنما ذكر ما يدل على الأمرين جميعا لأن ذكر تناصر أدلة العقل وأدلة السمع أقوى في إبطال مذهبهم وإن كانت أدلة العقل وحدها كافية .
" هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبتغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون " .
" لتبلغوا أشدكم " متعلق بفعل محذوف تقديره : ثم يبقيكم لتبلغوا . وكذلك لتكونوا . وأما " ولتبتغوا أجلا مسمى " فمعناه : ونفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى وهو وقت الموت . وقيل : يوم القيامة . وقرئ : شيوخا بكسر الشين . وشيخا على التوحيد كقوله : " طفلا " الحج : 5 ، والمعنى : كل واحد منكم . أو اقتصر على الواحدة لأن الغرض بيان الجنس " من قبل " من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا " ولعلكم تعقلون " ما في ذلك في العبر والحجج .
" هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون "