أو من غير احتياج إليه ولم يخرج منه حقه الواجب فيه فهو كالذي يأكل ولا يشبع يعني أنه كلما نال منه شيئا ازدادت رغبته واستقل ما في يده ونظر إلى ما فوقه فينافسه قوله فيكون عليه شهيدا يوم القيامة يحتمل البقاء على ظاهره وهو أنه يجاء بماله يوم القيامة فينطق الصامت منه ما فعل به أو يمثل له بمثال حيوان أو يشهد عليه الموكلون بكتب الكسب والأنفاق وقيل معنى قوله ويكون عليه شهيدا أي حجة عليه يوم القيامة يشهد على صرفه وإسرافه وأنه أنفقه فيما لا يرضاه الله تعالى ولم يؤد حقه .
ذكر ما يستفاد منه فيه مثلان ضربهما النبي أحدهما للمفرط في جمع الدنيا ومنعها من حقها والآخر للمقتصد في أخذها فأما قوله وإن مما ينبت الربيع فهو مثل المفرط الذي يأخذها بغير حق وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب فتستكثر منها الماشية حتى تنتفخ بطونها لما قد جاوزت حد الاحتمال فتنشق أمعاؤها منها فتهلك كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها ويمنع ذا الحق حقه يهلك في الآخرة بدخوله النار وأما قوله إلا آكلة الخضر فهو مثل المقتصد وذلك أن الخضر ليس من أحرار البقول التي ينبتها الربيع ولكنها من الجنبة التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول فضربه مثلا لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها فهو ناج من وبالها كما نجت آكلة الخضر وقيل الربيع قد ينبت أحرار العشب والكلأ فهي كلها خير في نفسها وإنما يأتي الشر من قبل آكل مستلذ مفرط منهمك فيها بحيث تنتفخ أضلاعه منه وتمتلىء خاصرتاه ولا يقلع عنه فيهلكه سريعا ومن أكل كذا فيشرفه إلى الهلاك ومن أكل مسرفا حتى تنتفخ خاصرتاه ولكنه يتوخى إزالة ذلك ويتحيل في دفع مضرتها حتى يهضم ما أكل ومن أكل غير مفرط ولا مسرف يأكل منها ما يسد جوعه ولا يسرف فيه حتى يحتاج إلى دفعه ومن أكل ما يسد به رمقه ويقوم به طاعته الأول مثال الكافر ومن ثمة أكد القتل بالحبط أي يقتل قتلا حبطا والكافر هو الذي يحبط أعماله والثاني مثال المؤمن الظالم لنفسه المنهمك في المعاصي والثالث مثال المقتصد والرابع مثال السابق الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة هذا الوجه يفهم من الحديث وإن لم يصرح به وفي كلام النووي إشعار بهذا .
وفيه جواز ضرب الأمثال بالأشياء التافهة والكلام الوضيع كالبول ونحوه .
وفيه جواز عرض التلميذ على العالم الأشياء المجملة وأن للعالم إذا سئل عن شيء أن يؤخر الجواب حتى يتيقن وفيه أن السؤال إذا لم يكن في موضعه ينكر على سائله وفيه أن العالم إذا سئل عن شيء ولم يستحضر جوابه أو أشكل عليه يؤخر الجواب حتى يكشف المسألة ممن فوقه من العلماء كما فعل في سكوته حتى استطلعها من قبل الوحي وفيه أن كسب المال من غير حله غير مبارك فيه والله تعالى يرفع عنه البركة كما قال تعالى يمحق الله الربا ( البقرة 672 ) وقال الشيخ أبو حامد مثال المال مثال الحية التي فيها ترياق نافع وسم ناقع فإن أصابها المعزم الذي يعرف وجه الاحتراز من شرها وطريق استخراج ترياقها النافع كانت نعمة وإن أصابها السوادي الغني فهي عليه بلاء مهلك وفيه أن للعالم أن يحذر من يجالسه من فتنة المال وينبههم على مواضع الخوف كما قال إنما أخاف عليكم ( البقرة 672 ) فوصف لهم ما يخاف عليهم ثم عرفهم بمداواة تلك الفتنة وهي إطعام المسكين ونحوه وفيه الحض على الاقتصاد في المال والحث على الصدقة وترك الإمساك قال الكرماني وفيه حجة لمن يرجح الغني على الفقر قلت هذا الكلام عكس ما نقل عن المهلب فإنه قال احتج قوم بهذا الحديث في تفضيل الفقر على الغنى وليس كما تأولوه لأن النبي لم يخش عليهم ما يفتح عليهم من زهرة الدنيا إلا إذا ضيعوا ما أمرهم الله تعالى به في إنفاق حقه قلت جمع المال غير محرم ولكن الاستكثار منه والخروج عن حد الاقتصاد فيه ضار كما أن الاستكثار من المآكل مسقم من غير تحريم للآكل ولكن الاقتصاد فيه هو المحمود وفيه جلوس الإمام على المنبر عند الموعظة وجلوس الناس حوله وفيه خوف المنافسة لقوله إنما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وفيه استفهامهم بضرب المثل وفيه مسح الرحضاء للشدة الحاصلة وفيه دعاء السائل لقوله أين السائل وفيه ظهور البشرى لقوله وكأنه حمده أي لما رأى فيه من البشرى لأنه كان إذا سر برقت أسارير وجهه والله أعلم