ويمكن أن تندرج هذه الحكمة بوجوهها الخمسة تحت قول الله في بيان الحكمة من تنجيم القرآن كذلك لنثبت به فؤادك ورتلنه ترتيلا 25 الفرقان 32 من سورة الفرقان .
الحكمة الثانية .
التدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علما وعملا .
وينضوي تحت هذا الإجمال أمور خمسة أيضا .
أولها تيسير حفظ القرآن على الأمة العربية وهي كما علمت كانت أمة أمية .
وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لدى الكاتبين منهم على ندرتهم وكانت مشتغلة بمصالحها المعاشية وبالدفاع عن دينها الجديد بالحديد والدم فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه فاقتضت الحكمة العليا أن ينزله الله إليهم مفرقا ليسهل عليهم حفظه ويتهيأ لهم استظهاره .
ثانيها تسهيل فهمه عليهم كذلك مثل ما سبق في توجيه التيسير في حفظه .
ثالثها التمهيد لكمال تخليهم عن عقائدهم الباطلة وعباداتهم الفاسدة وعاداتهم المرذولة .
وذلك بأن يراضوا على هذا التخلي شيئا فشيئا بسبب نزول القرآن عليهم كذلك شيئا فشيئا فكلما نجح الإسلام معهم في هدم باطل انتقل بهم إلى هدم آخر وهكذا يبدأ بالأهم ثم بالمهم حتى انتهى بهم آخر الأمر عن تلك الأرجاس كلها فطهرهم منها وهم لا يشعرون بعنت ولا حرج وفطمهم عنها دون أن يرتكسوا في سابق فتنة أو عادة .
وكانت هذه سياسة رشيدة لا بد منها في تربية هذه الأمة المجيدة لا سيما أنها كانت أبية معاندة تتحمس لموروثاتها وتستميت في الدفاع عما تعتقده من شرفها وتتهور في سفك الدماء وشن الغارات لأتفه الأسباب .
رابعها التمهيد لكمال تحليهم بالعقائد الحقة والعبادات الصحيحة والأخلاق الفاضلة بمثل تلك السياسة الرشيدة السابقة .
ولهذا بدأ الإسلام بفطامهم عن الشرك والإباحة وإحياء قلوبهم بعقائد التوحيد والجزاء من جراء ما فتح عيونهم عليه من أدلة التوحيد وبراهين البعث بعد الموت وحجج الحساب والمسؤولية والجزاء .
ثم انتقل بهم بعد هذه المرحلة إلى العبادات فبدأهم بفرضية الصلاة قبل الهجرة وثنى بالزكاة وبالصوم في السنة الثانية من الهجرة وختم بالحج في السنة السادسة منها .
وكذلك كان الشأن في العادات زجرهم عن الكبائر وشدد النكير عليهم فيها .
ثم نهاهم عن الصغائر في شيء من الرفق وتدرج في تحريم ما كان مستأصلا فيهم كالخمر تدرجا حكيما حقق الغاية وأنقذهم من كابوسها في النهاية .
وكان الإسلام في انتهاج هذه الخطة المثلى أبعد نظرا