يقول تعالى مذكرا عباده المؤمنين نعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه فقال تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا } وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند إسلامهم كما قالوا : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله وقال الله تعالى : { وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين } وقيل : هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى الله عليه وسلّم والانقياد لشرعه رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
وقيل : هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } قاله مجاهد ومقاتل بن حيان والقول الأول أظهر وهو المحكي عن ابن عباس والسدي واختاره ابن جرير .
ثم قال تعالى : { واتقوا الله } تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال ثم أعلمهم أنه يعلم ما يختلج في الضمائر من الأسرار والخواطر فقال { إن الله عليم بذات الصدور } وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله } أي كونوا قوامين بالحق لله D لا لأجل الناس والسمعة وكونوا { شهداء بالقسط } أي بالعدل لا بالجور وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير أنه قال : نحلني أبي نحلا فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجاءه ليشهده على صدقتي فقال [ أكل ولدك نحلت مثله ؟ ] قال : لا فقال [ اتقوا الله واعدلوا في أولادكم ] وقال [ إني لا أشهد على جور ] قال : فرجع أبي فرد تلك الصدقة .
وقوله تعالى : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا } أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم بل استعملوا العدل في كل أحد صديقا كان أو عدوا ولهذا قال { اعدلوا هو أقرب للتقوى } أي عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه كما في نظائره من القرآن وغيره كما في قوله { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم } .
وقوله : هو أقرب للتقوى من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء كما في قوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } وكقول بعض الصحابيات لعمر : أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال تعالى : { واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } أي وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ولهذا قال بعده { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة } أي لذنوبهم { وأجر عظيم } وهوالجنة التي هي من رحمته على عباده لا ينالونها بأعمالهم بل برحمة منه وفضل وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم وهو تعالى الذي جعلها أسبابا إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه فالكل منه وله فله الحمد والمنة .
ثم قال : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } وهذا من عدله تعالى وحكمته وحكمه الذي لا يجور فيه بل هو الحكم العدل الحكيم القدير وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم } قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري ذكره عن أبي سلمة عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلّم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها وعلق النبي صلى الله عليه وسلّم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخذه فسله ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال : من يمنعك مني ؟ قال : [ الله D ] قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا : من يمنعك مني ؟ والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول [ الله ] قال : فشام الأعرابي السيف فدعا النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه ولم يعاقبه وقال معمر : كان قتادة يذكر نحو هذا ويذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلّم فأرسلوا هذا الأعرابي وتأول { اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } الآية وقصة هذا الأعرابي وهو غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح .
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم } وذلك أن قوما من اليهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ولأصحابه طعاما ليقتلوهم فأوحى الله إليه بشأنهم فلم يأت الطعام وأمر أصحابه فأتوه رواه ابن أبي حاتم وقال أبو مالك : نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه حين أرادوا أن يغدروا بمحمد وأصحابه في دار كعب بن الأشرف رواه ابن أبي حاتم وذكر محمد بن إسحاق بن يسار ومجاهد وعكرمة وغير واحد أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلّم الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين ووكلوا عمرو بن جحاش ابن كعب بذلك وأمروه إن جلس النبي A تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرحى من فوقه فأطلع الله النبي A على ما تمالؤوا عليه فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه فأنزل الله في ذلك هذه الآية وقوله تعالى : { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } يعني من توكل على الله كفاه الله ما أهمه وحفظه من شر الناس وعصمه ثم أمر رسول الله A أن يغدو إليهم فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم