يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السموات وما في الأرض أي من جميع المخلوقات ناطقها وجامدها كما قال تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } ثم قال تعالى : { الملك القدوس } أي هو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بحكمه وهو المقدس أي المنزه عن النقائص الموصوف بصفات الكمال { العزيز الحكيم } تقدم تفسيرهما غير مرة وقوله تعالى : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم } الأميون هم العرب كما قال تعالى : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد } وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر كما قال تعالى في قوله : { وإنه لذكر لك ولقومك } وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به وكذا قال تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } وقوله : { لأنذركم به ومن بلغ } وقوله تعالى إخبارا عن القرآن : { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } إلى غير ذلك من الايات الدالة على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم وقد قدمنا تفسير ذلك في سورة الأنعام بالايات والأحاديث الصحيحة ولله الحمد والمنة .
وهذه الاية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة على حين فترة من الرسل وطموس من السبل وقد اشتدت الحاجة إليه وقد مقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب أي نزرا يسيرا ممن تمسك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام ولهذا قال تعالى : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } وذلك أن العرب كانوا قديما متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليه السلام فبدلوه وغيروه وقلبوه وخالفوه واستبدلوا بالتوحيد شركا وباليقين شكا وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها فبعث الله محمدا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق فيه هدايتهم والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ورضا الله عنهم والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى حاكم فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع وجمع له تعالى وله الحمد والمنة جميع المحاسن ممن كان قبله وأعطاه ما لم يعط أحدا من الأولين ولا يعطيه أحدا من الاخرين فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين .
وقوله تعالى : { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم } قال الإمام أبو عبد الله البخاري C تعالى : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا سليمان بن بلال عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة Bه قال : كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلّم فأنزلت عليه سورة الجمعة { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } قالوا : من هم يا رسول الله ؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا وفينا سلمان الفارسي فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يده على سلمان الفارسي ثم قال : [ لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال ـ أو رجل ـ من هؤلاء ] ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير من طرق عن ثور بن زيد الديلي عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة به ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية وعلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلّم إلى جميع الناس لأنه فسر قوله تعالى : { وآخرين منهم } بفارس ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم يدعوهم إلى الله D وإلى اتباع ما جاء به ولهذا قال مجاهد وغير واحد في قوله تعالى : { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } قال : هم الأعاجم وكل من صدق النبي صلى الله عليه وسلّم من غير العرب وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا أبو محمد عيسى ابن موسى عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب ] ثم قرأ : { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } يعني بقية من بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلّم وقوله تعالى : { وهو العزيز الحكيم } أي : ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره وقوله تعالى : { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } يعني ما أعطاه الله محمدا صلى الله عليه وسلّم من النبوة العظيمة وما خص به أمته من بعثته صلى الله عليه وسلّم إليهم