يقول تعالى مخبرا عن المشركين : إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم متعوا في الحياة الدنيا ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه فاعتقدوا أنهم على شيء ثم قال واعظا لهم { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } اختلف المفسرون في معناه وقد أسلفنا في سورة الرعد وأحسن ما فسر بقوله تعالى : { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون } وقال الحسن البصري : يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر والمعنى أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده المؤمنين ولهذا قال : { أفهم الغالبون } يعني بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون والأرذلون .
وقوله : { قل إنما أنذركم بالوحي } أي إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إلي ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه وقلبه ولهذا قال : { ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون } وقوله : { ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين } أي ولئن مس هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله ليعترفن بذنوبهم وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدنيا وقوله : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } أي ونضع الموازين العدل ليوم القيامة الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه .
وقوله : { فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } كما قال تعالى : { ولا يظلم ربك أحدا } وقال : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } وقال لقمان { يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير } وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم [ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن ليث بن سعد عن عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ إن الله D يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول : أتنكر من هذا شئيا ؟ أظلمتك كتبتي الحافظون ؟ قال : لا يارب قال : أفلك عذر أو حسنة ؟ قال : فيبهت الرجل فيقول : لا يا رب فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيقول أحضروه فيقول يا رب في هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول : إنك لا تظلم قال : فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة قال : فطاشت السجلات وثقلت البطاقة قال : ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم ] ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث الليث بن سعد وقال الترمذي : حسن غريب .
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [ توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة ويوضع ما أحصي عليه فيمايل به الميزان قال : فيبعث به إلى النار قال : فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرحمن D يقول : لا تعجلوا فإنه قد بقي له فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان ] وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو نوح مرارا أنبأنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم جلس بين يديه [ فقال يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم : يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويهتف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ماله لا يقرأ كتاب الله { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } فقال الرجل : يا رسول الله ما أجد شيئا خير من فراق هؤلاء ـ يعني عبيده ـ إني أشهدك أنهم أحرار كلهم ]