قال الشيخ الحافظ ( عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير ) C تعالى ورضي عنه : .
الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد فقال : { الحمد لله رب العالمين } وافتتح خلقه بالحمد فقال : { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } واختتمه بالحمد فقال بعد ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار : { وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } فله الحمد في الأولى والآخرة أي في جميع ما خلق وما هو خالق هو المحمود في ذلك كله ولهذا يلهم أهل الجنة تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس { دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } .
والحمد لله الذي أرسل رسله { مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وختمهم بالنبي الأمي العربي المكي الهادي لأوضح السبل أرسله لجميع خلقه من الإنس والجن من لدن بعثته إلى قيام الساعة كما قال تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } وقال تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " بعثت إلى الأحمر والأسود " فهو صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى جميع الثقلين : الإنس والجن مبلغا لهم عن الله D ما أوحاه إليه من الكتاب العزيز { الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزل من حكيم حميد } .
فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله وتفسير ذلك وطلبه من مظانه وتعلم ذلك وتعليمه كما قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون } فذم الله أهل الكتاب بإعراضهم عن كتاب الله وإقبالهم على الدنيا وجمعها .
فعلينا أن ننتهي عما ذمهم الله تعالى به وأن نأتمر بما أمرنا به من تعلم كتاب الله المنزل إلينا وتعليمه وتفهمه وتفهيمه قال تعالى : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق } ؟ الآية .
ففي ذكره تعالى لهذه الآية تنبيه على أنه تعالى كما يحيي الأرض بعد موتها كذلك يحيي القلوب بالإيمان ويلينها بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي والله المؤمل المسئول أن يفعل بنا هذا إنه جواد كريم .
فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير ؟ .
فالجواب : أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له قال تعالى : { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } .
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " يعني السنة المطهرة .
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن من القرآن فإن لم تجده فمن السنة وإذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح لا سيما علماؤهم وكبروؤهم كالخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين المهديين وعبد الله بن مسعود فقد قال ابن مسعود : " والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته " ( رواه ابن جرير الطبري عن مسروق عن عبد الله بن مسعود ) .
وقال أبو عبد الرحمن السلمي : " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلّم وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل جميعا " .
ومنهم ( عبد الله بن عباس ) الحبر البحر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم له حيث قال : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " .
وقد قال عبد الله بن مسعود : " نعم ترجمان القرآن ابن عباس " .
وقد مات ابن مسعود Bه في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح وعمر بعده ابن عباس ستا وثلاثين سنة فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود ؟ .
ولهذا غالب ما يرويه ( السدي ) الكبير في تفسيره عن هذين الرجيلين ( ابن مسعود ) و ( ابن عباس ) ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث قال " بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " ( رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص ) .
ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر اللإستشهاد لا للإعتضاد وهي على ثلاثة أقسام : .
أحدها : ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح .
والثاني : ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه فذاك مردود .
والثالث : ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته لما تقدم وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني .
( فصل ) : إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة إلى اقوال التابعين ك ( مجاهد بن جبر ) فإنه كان آية في التفسير فقد قال : " عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها " .
ولهذا قال ( سفيان الثوري ) : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به . . . وك ( سعيد بن جبير ) و ( عكرمة مولى ابن عباس ) و ( عطاء بن أبي رباح ) و ( الحسن البصري ) و ( مسروق بن الأجدع ) و ( سعيد بن المسيب ) و ( قتادة ) و ( الضحاك ) وغيرهم من التابعين ومن بعدهم فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عبارتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلاقا فيحكيها أقوالا وليس كذلك فليتفطن اللبيب لذلك والله الهادي .
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : " من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار " ( رواه ابن جرير بسنده عن ابن عباس وأخرجه الترمذي والسائي ) ولقوله صلى الله عليه وسلّم : " من قال في كتاب الله برأيه فاصاب فقد أخطأ ( رواه أبو داود والترمذي والنسائي ) " أي لأنه قد تكلف ما لا علم له به وسلك غير ما أمر به لأنه لم يأت الأمر من بابه كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به فقد روي عن أبي بكر الصديق Bه أنه قال : " أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم " .
وروى أنس عن عمر بن الخطاب أنه قرأ على المنبر { وفاكهة وأبا } فقال : هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا لهو التكلف يا عمر .
وروى ابن جرير بسنده عن عبيد الله بن عمر قال : لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير وعن هشام بن عروة قال : ما سمعت أبي يؤول آية من كتاب الله قط وسأل محمد بن سيرين ( عبيدة السلماني ) عن آية من القرآن فقال : ذهب الذين كانوا يعلمون فيمن أنزل القرآن فاتق الله وعليك بالسداد .
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلهم عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ولا منافاة لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه وهذا هو الواجب على كل أحد فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه لقوله تعالى : { لتبيننه للناس ولا تكتمونه } ولما جاء في الحديث الشريف " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " ( أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة )