- الحديث السابع والسبعون : قال عليه السلام : .
- " إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس وإنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن " قلت : رواه مسلم في " صحيحه " من حديث معاوية بن الحكم السلمي قال : بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ عطس رجل من القوم فقلت له : يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت : واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتوني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم - فبأبي هو وأمي - ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني ثم قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن الحديث بطوله وللبيهقي ( 1 ) " إنما هي " قال النووي في " الخلاصة " : بسند صحيح وفي لفظ للطبراني في " معجمه " : إن صلاتنا لا يحل فيها شيء من كلام الناس وبوب عليه مسلم " باب نسخ الكلام في الصلاة " : والمصنف استدل بهذا الحديث على أن الكلام مبطل للصلاة .
وللخصم عنه جوابان : أحدهما : إن قوله : " لا يصلح " ليس دالا على البطلان ولكن معناه أنه محظور وليس كل محظور مبطل . الثاني ( 2 ) : قالوا : إنه لم يأمره بالإعادة وإنما علمه أحكام الصلاة انتهى .
- أحاديث الباب : أخرج البخاري ( 3 ) ومسلم عن جابر قال : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو منطلق إلى بني المصطلق فأتيته وهو يصلي على بعيره فكلمته فقال لي بيده وأومأ زهير بيمينه . ثم كلمته فقال لي : هكذا وأنا أسمعه يقرأ يومئ برأسه فلما فرغ قال : " ما فعلت في الذي أرسلتك له ؟ فإنه لم يمنعني أن أكلمك إلا أني كنت أصلي " انتهى .
- حديث آخر : أخرجه الدارقطني في " سننه ( 4 ) " عن أبي شيبة عن يزيد أبي خالد الدالاني عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " الكلام ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء " انتهى . وهو حديث ضعيف فيه أبو شيبة إبراهيم بن عثمان جد الإمام أبي بكر بن أبي شيبة وقد ضعفه غير واحد . وفيه يزيد الدالاني أيضا قال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد قال البيهقي ( 5 ) : والصحيح في هذا الحديث موقوف ورواه أبو شيبة إبراهيم بن عثمان فرفعه وهو ضعيف انتهى .
- أحاديث الخصوم : حديث ذي اليدين وقد روى : من حديث عمران بن حصين ومن حديث ابن عمر .
فحديث أبي هريرة أخرجه البخاري ( 6 ) ومسلم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إحدى صلاتي العشي : إما الظهر . وإما العصر فسلم في ركعتين ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليها مغضبا وفي القوم أبو بكر . وعمر فهابا أن يتكلما وخرج سرعان الناس فقام ذو اليدين فقال : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال : " ما يقول ذو اليدين " ؟ قالوا : صدق لم تصل إلا الركعتين فصلى ركعتين وسلم ثم سجد سجدتين ثم سلم وفي رواية للبخاري قال : " لم أنس ولم تقصر " وفي رواية لهما ( 7 ) قال : " كل ذلك لم يكن قال : قد كان بعض ذلك " وفي رواية للبخاري ( 8 ) فقام رجل كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعوه ذو اليدين فقال : يا رسول الله أنسيت أم قصرت ؟ وفي لفظ لهما ( 9 ) : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة العصر وفي لفظ لهما ( 10 ) : صلى ركعتين من صلاة الظهر ثم سلم فأتاه رجل من بني سليم ورواه ابن حبان في " صحيحه " في النوع السابع عشر من القسم الخامس ولفظه : قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم : الظهر . أو العصر فسلم في الركعتين فقال ذو الشمالين ابن عبد عمرو حليف لبني زهرة : أخففت الصلاة أم نسيت يا رسول الله ؟ فقال عليه السلام : " ما يقول ذو اليدين ؟ قالوا : يا نبي الله صدق قال : فأتم بهم الركعتين اللتين نقصهما ثم سلم " قال الزهري : كان هذا قبل بدر ثم استحكمت الأمور بعد انتهى . ورواه مالك في " الموطأ " مالك ( 11 ) عن ابن شهاب الزهري عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ركع ركعتين من إحدى صلاتي النهار : الظهر . أو العصر فسلم من اثنتين فقال له ذو الشمالين رجل من بني زهرة ابن كلاب : أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " ما قصرت الصلاة وما نسيت فقال له ذو الشمالين : قد كان بعض ذلك يا رسول الله فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الناس فقال : أصدق ذو اليدين ؟ قالوا : نعم فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما بقي من الصلاة ثم سلم " انتهى . قال ابن عبد البر في " التقصي " : هذا مرسل إلا أنه يتصل من وجوه صحاح انتهى .
وأما حديث عمران بن حصين ( 12 ) : فأخرجه البخاري . ومسلم أيضا عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له : الخرباق وكان في يديه طول فقال : يا رسول الله فذكر له صنيعه فقال : أصدق هذا ؟ قالوا : نعم فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم " وفي لفظ لهما : فقام رجل بسيط اليدين الحديث .
وأما حديث ابن عمر فأخرجه أبو داود . وابن ماجه ( 13 ) عن أبي كريب الهمداني عن أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم " يعني صلاة " فسها فيها فسلم في الركعتين فقال له رجل يقال له ذو اليدين : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال : " ما قصرت ولا نسيت قال : إنك صليت ركعتين قال : أكما يقول ذو اليدين ؟ قالوا : نعم فتقدم فصلى ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو انتهى . وأخرجه أبو داود أيضا عن أحمد بن محمد بن ثابت عن أبي أسامة به وأخرجه ابن خزيمة في " صحيحه " عن أبي كريب . وبشر بن خالد العسكري عن أبي أسامة به وأخرجه الدارقطني عن أحمد بن سنان القطان - وهو من الثقات الأثبات - حدثنا أبو أسامة به قال الدارقطني : ولا نعلم حدث به غير أحمد بن سنان القطان - وهو من الثقات الأثبات - والعجب من الدارقطني وعلو مرتبته كيف يقول مثل هذا وقد رواه أبو كريب ( 14 ) . وأحمد بن ثابت . وبشر بن خالد كما قدمناه ولكن تخلص بقوله : لا نعلم والله أعلم ولأصحابنا عن حديث ذي اليدين جوابان : أحدهما : أنه منسوخ بحديث زيد بن أرقم وحديث ابن مسعود .
فحديث زيد بن أرقم : أخرجه البخاري ( 15 ) ومسلم عنه قال : كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت : { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام انتهى .
وحديث ابن مسعود أيضا أخرجاه عنه ( 16 ) قال : كنا نسلم على رسول الله A وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا : يا رسول الله كنا نسلم عليك فترد علينا فقال : " إن في الصلاة شغلا " انتهى . أخرجاه عن إبراهيم عن علقمة عنه وأخرجه أبو داود ( 17 ) عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عنه قال : كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا فقدمت على رسول الله A وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي السلام فأخذني ما قدم وما حدث فلما قضى الصلاة قلت : يا رسول الله إنك كنت ترد علينا قال : إن الله يحدث من أمره ما يشاء وأنه قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة انتهى . وكذلك رواه ابن حبان في " صحيحه " قال البيهقي : ورواه جماعة من الأئمة عن عاصم بن أبي النجود وتداوله الفقهاء إلا أن صاحبي الصحيح يتوقيان رواية عاصم لسوء حفظه فأخرجاه من طريق آخر ببعض معناه انتهى . قال أصحابنا : وذو اليدين قتل يوم بدر وقد قال الزهري ( 18 ) : إن قصة ذي اليدين في الصلاة كانت قبل بدر وإسلام أبي هريرة كان عام خيبر بعد بدر بخمس سنين ولا يمتنع كون أبي هريرة رواه وهو متأخر الإسلام عن بدر لأن الصحابي قد يروى مالا يحضره ( 19 ) بأن يسمعه من النبي A أو من صحابي آخر وأجاب البيهقي في " المعرفة " بأن أبا هريرة شهد قصة ذي اليدين في الصلاة وحضرها كما ورد في " الصحيحين " عنه قال : صلى بنا رسول الله A ( 20 ) وفي لفظ : بينا نحن نصلي مع رسول الله إحدى صلاتي العشى قال والذي قتل ببدر إنما هو ذو الشمالين اسمه " عمير بن عمرو " خزاعي قال : وقد أجمعوا على أن إسلام أبي هريرة كان عام خيبر سنة سبع بعد بدر بخمس سنين انتهى . وقال البيهقي في " المعرفة " أيضا : وهم الزهري في قوله : ذو الشمالين وإنما هو ذو اليدين وذو الشمالين تقدم موته فيمن قتل ببدر وذو اليدين ( 21 ) بقي بعد النبي A فيما يقال ( 22 ) وقال في موضع آخر : وذو الشمالين هو ابن عبد عمرو بن نضلة حليف لبني زهرة من خزاعة استشهد يوم بدر هكذا ذكره عروة بن الزبير وسائر أهل العلم بالمغازي قال ابن إسحاق : لا عقب له وأما ذو اليدين فقال يحيى بن كثير ( 23 ) : في حديثه رجل من بني سليم وشعيب بن مطير ( 24 ) يروى عن أبيه عن ذي اليدين قال البيهقي : وليس في حديث زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة دلالة على أنه بعد حديث ذو اليدين لأن زيد بن أرقم من متقدمي الصحابة روى عنه أنه قال : غزوت مع رسول الله A سبع عشرة غزوة وأبو هريرة إنما صحب النبي A بخيبر وصحبه ثلاث سنين أو أربعا روى عن قيس ابن أبي حازم قال : سمعت أبا هريرة يقول : صحبت رسول الله A ثلاث سنين وابن مسعود فقد شهد بدرا لأنه هاجر إلى الحبشة ثم رجع إلى مكة ثم رجع إلى المدينة وشهد بدرا ذكره موسى بن عقبة في " مغازيه " وهي أصح المغازي عند أهل الحديث : روى عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن مسعود ( 25 ) قال : بعثنا رسول الله A إلى النجاشي وهم ثمانون رجلا فذكر القصة وفي آخرها : فبادر ابن مسعود وجاء فشهد بدرا وحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين كان بعد ذلك وعمران بن حصين قال الحميدي وهو أحد أركان الحديث : كان إسلامه بعد بدر وقد حضر صلاة النبي A وقوله : الخرباق ومعاوية بن حديج كان إسلامه قبل وفاة النبي A بشهرين وقد حضر قصة طلحة بن عبيد الله وروينا عن الأوزاعي قال : كان إسلام معاوية بن الحكم في آخر الأمر فلم يأمره عليه السلام بإعادة الصلاة ( 26 ) وقوله : إن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس أي الكلام العمد الذي يمكن الاحتراز منه وحديث ذي اليدين في كلام السهو قال : والدليل على عدم النسخ ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ( 27 ) وأسند إلى عطاء أن ابن الزبير صلى بهم ركعتين من المغرب ثم سلم ثم قام إلى الحجر ليستلمه فسبح به القوم فالتفت إلينا وقال : ما أتممنا الصلاة ؟ فقلنا برؤوسنا : لا فرجع فصلى الركعة الباقية ثم سجد سجدتين فذكر ذلك لابن عباس فقال : ما أماط عن سنة نبيه A انتهى كلامه .
وقال السهيلي في " الروض الأنف ( 28 ) " : روى الزهري حديث التسليم من الركعتين وقال فيه : فقال ذو الشمالين رجل من بني زهرة فقال : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال عليه السلام : " أصدق ذو اليدين ؟ " لم يروه أحد هكذا إلا الزهري وهو غلط عند أهل الحديث وإنما هو : ذو اليدين السلمي واسمه " خرباق - وذو الشمالين " قتل ببدر والحديث شهده أبي هريرة وكان إسلامه بعد بدر بسنتين ومات ذو اليدين السلمي في خلافة معاوية وروى هذا الحديث عنه ابنه مطير بن الخرباق ورواه عن مطير ابنه شعيب بن مطر ولما رأى المبرد حديث الزهري قال : ذو اليدين هو : ذو الشمالين كما يسمى بهما جميعا ذكره في آخر " كتابه الكامل " وجهل ما قاله أهل الحديث والسير انتهى .
قلت : وهكذا قال ابن سعد في " الطبقات ( 29 ) : ذو اليدين ويقال : ذو الشمالين اسمه عمير بن عمرو بن نضلة من خزاعة انتهى . الجواب الثاني لأصحابنا : عن حديث ذي اليدين قالوا : إنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة بدليل أن أبا بكر . وعمر . وغيرهما من الناس تكلموا عامدين وأجاب الخطابي عن هذا بأمرين : أحدهما : أنهم لم يتكلموا ولكنهم أشاروا وقع ذلك في رواية حماد بن زيد عن أيوب أنهم أومأوا ( 30 ) أي نعم ورواية من روى أنهم قالوا : نعم إنما هو تجوز ونقل بالمعنى كما يقول الرجل : قلت برأسي : نعم . الثاني : أن ذلك من خصائص النبي A وكل كلام كان جوابا لرسول الله A فغير منسوخ جوازه في الصلاة يدل عليه حديث أبي سعيد بن المعلى ( 31 ) قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله A فلم أجبه ثم أتيته فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي فقال : ألم يقل الله : { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ؟ وإذا ثبت أن جواب الرسول واجب لم يبطل انتهى . وقال الشيخ تقي الدين في " الإمام " : وبهذا الحديث استدل من قال : إن المتكلم بكلام واجب عليه لا يبطل انتهى . والله أعلم وقال ابن حبان ( 32 ) : تحريم الكلام إنما كان بمكة فلما بلغ المسلمون بالمدينة سكتوا فقال زيد بن أرقم وهو من أهل المدينة يحكي الحال : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت وقال الخطابي : نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة يسيرة وعلى القولين قد كان ذاك قبل إسلام أبي هريرة بسنين انتهى . والله أعلم .
( يتبع ... )