- والمذاهب في كونها من القرآن ثلاثة : طرفان . ووسط فالطرف الأول قول من يقول : إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل كما قاله مالك . وطائفة من الحنفية وقاله بعض أصحاب أحمد مدعيا أنه مذهبه أو ناقلا لذلك رواية عنه . والطرف الثاني المقابل له قول من يقول : إنها آية من كل سورة أو بعض آية كما هو المشهور عن الشافعي . ومن وافقه فد نقل عن الشافعي أنها ليست من أوائل السور غير الفاتحة وإنما يستفتح به السور تبركا بها والقول الوسط : إنها من القرآن حيث كتبت وإنها مع ذلك ليست من السور بل كتبت آية في كل سورة وكذلك تتلى آية مفردة في أول كل سورة كما تلاها النبي صلى الله عليه وسلّم حين أنزلت عليه : { إنا أعطيناك الكوثر } رواه مسلم ( 5 ) من حديث المختار بن فلفل عن أنس أنه عليه السلام أغفا إغفاءة ثم استيقظ فقال : " نزلت علي سورة آنفا ثم قرأ : { بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر } " إلى آخرها وكما في قوله ( 6 ) : " إن سورة من القرآن هي ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي { تبارك الذي بيده الملك } وهذا قول ابن المبارك . وداود . وأباعه وهو المنصوص عن أحمد بن حنبل وبه قال جماعة من الحنفية وذكر أبو بكر الرازي أنه مقتضى مذهب أبي حنيفة وهذا قول المحققين من أهل العلم فإن في هذا القول الجمع بين الأدلة وكتابتها سطرا مفصلا عن السورة يؤيد ذلك وعن ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه { بسم الله الرحمن الرحيم } وفي رواية : لا يعرف انقضاء السورة رواه أبو داود . والحاكم وقال : إنه صحيح على شرط الشيخين ثم لأصحاب هذا القول في " الفاتحة " قولان وهما روايتان عن أحمد : أحدهما : أنها من الفاتحة دون غيرها تجب قراءتها حيث تجب قراءة الفاتحة . والثاني وهو الأصح : أنه لا فرق بين الفاتحة وغيرها في ذلك وأن قراءتها في أول الفاتحة كقراءتها في أول السور والأحاديث الصحيحة توافق هذا القول وحينئذ الأقوال في قراءتها في الصلاة أيضا ثلاثة : أحدها : أنه واجبة وجوب الفاتحة كمذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وطائفة من أهل الحديث بناءا على أنها من الفاتحة . والثاني : أنه مكروهة سرا وجهرا وهو المشهور عن مالك . والثالث : أنها جائزة بل مستحبة وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور عن أحمد وأكثر أهل الحديث ثم مع قراءتها هل يسن الجهر بها أو لا ؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : يسن الجهر وبه قال الشافعي . ومن وافقه . والثاني : لا يسن وبه قال أبو حنيفة . وجمهور أهل الحديث . والرأي . وفقهاء الأمصار . وجماعة من أصحاب الشافعي وقيل : يخير بينهما وهو قول إسحاق بن راهويه . وابن حزم وكان بعض العلماء يقول بالجهر سدا للذريعة قال : ويسوغ للإنسان أن يترك الأفضل لأجل تأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفا من التنفير كما ترك النبي صلى الله عليه وسلّم بناء البيت على قواعد إبراهيم لكون قريش كانوا حدثي عهد بالجاهلية وخشي تنفيرهم بذلك ورأى تقديم مصلحة الاجتماع على ذلك ولما أنكر الربيع على ابن مسعود إكماله الصلاة خلف عثمان قال : الخلاف شر وقد نص أحمد . وغيره على ذلك في البسملة وفي وصل الوتر وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول مراعاة لائتلاف المأمومين أو لتعريفهم السنة وأمثال ذلك وهذا أصل كبير في سد الذرائع .
هذا تحرير أقوال العلماء في هذه المسألة والله أعلم وقد اعتمد غير واحد من المصنفين على وجوب قرائتها وكونها من القرآن بكتابة الصحابة لها في المصحف بعلم القرآن قال النووي في " الخلاصة " : قال أصحابنا : وهذا أقوى الأدلة فيه فإن الصحابة جردوا القرآن عما ليس منه والذين نازعوهم دفعوا هذه الحجة بغير حق فقالوا : إن القرآن لا يثبت إلا بقاطع ولو كان هذا قاطعا لكفر مخالفه وقد سلك أبو بكر الباقلاني وغيره هذا المسلك وادعوا أنهم يقطعون بخطأ الشافعي في جعله البسملة من القرآن معتمدين على هذه الحجة وأنه لا يجوز إثبات القرآن إلا بالتواتر ولا تواتر ههنا فيجب القطع بنفي كونها من القرآن والتحقيق أن هذه حجة مقابلة بمثلها فيقال لهم : بل يقطع بكونها من القرآن حيث كتبت كما قطعتم بنفي كونها منه ومثل هذا النقل المتواتر عن الصحابة بأن ما بين اللوحين قرآن فإن التفريق بين آية وآية يرفع الثقة بكون القرآن المكتوب بين لوحي المصحف كلام الله ونحن نعلم بالضرورة أن الصحابة الذين كتبوا المصاحف نقلوا إلينا ما كتبوه بين لوحي المصحف كلام الله الذي أنزله إلى نبيه صلى الله عليه وسلّم لم يكتبوا فيه ما ليس من كلام الله فإن قال المنازع : إن قطعتم بأن البسملة من القرآن حيث كتبت فكفروا النافي قيل لهم : هذا معارض بمثله إذا قطعتم بنفي كونها من القرآن فكفروا منازعكم وقد اتفقت الأمة على نفي التكفير في هذا الباب مع دعوى كثير من الطائفيين القطع بمذهبه وذلك لأنه ليس كل ما كان قطعيا عند شخص يجب أن يكون قطعيا عند غيره وليس كل ما ادعت طائفة أنه قطعي عندها يجب أن يكون قطعيا في نفس الأمر بل قي يقع الغلط في دعوى المدعي القطع في غير محل القطع كما يغلط في سمعه . وفهمه . ونقله . وغير ذلك من أحواله بل كما يغلط الحس الظاهر في مواضع وحينئذ فيقال : الأقوال في كونها من القرآن ثلاثة : طرفان . ووسط كما تقدم والذي اجتمع على الأدلة هو القول الوسط وهو أنها من القرآن حيث كتبت وأنها ليست من السور بل تكتب قبل السورة وتقرأ كما قرأها النبي صلى الله عليه وسلّم وقال النووي في " شرح مسلم " في حديث بدء الوحي في قوله : فجاءه الملك فقال له : اقرأ فقال : ما أنا بقارئ ثلاث مرات ثم قال له : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } : استدل بهذا الحديث من يقول : إن البسملة ليست آية في أوائل السور لكونها لم تذكر هنا قال : وأجيب عنه : أن البسملة أنزلت في وقت آخر كما نزل باقي السور في وقت آخر انتهى . وحجة الخصوم المانععين من الجهر بالبسملة في الصلاة أحاديث : أقواها حديث أنس رواه البخاري . ومسلم في " صحيحهما " من حديث شعبة سمعت قتادة يحدث عن أنس قال : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم . وخلف أبي بكر . وعمر . وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " وفي لفظ لمسلم : فكانوا يستفتحون القراءة " بالحمد لله رب العالمين " ولا يذكرون " بسم الله الرحمن الرحيم " في أول قراءة ولا في آخرها انتهى . ورواه النسائي في " سننه ( 7 ) " . وأحمد في " مسنده " . وابن حبان في " صحيحه " . والدارقطني في " سننه " وقالوا فيه : وكانوا لا يجهرون " ببسم الله الرحمن الرحيم " وزاد ابن حبان : ويجهرون " بالحمد لله رب العالمين " وفي لفظ لابن حبان . والنسائي أيضا : لم أسمع أحدا منهم يجهر " ببسم الله الرحمن الرحيم " وفي لفظ لأبي يعلى الموصلي في " مسنده " : فكانوا يفتتحون القراءة فيما يجهر به " بالحمد لله رب العالمين " وفي لفظ للطبراني في " معجمه " . وأبي نعيم في " الحلية " . وابن خزيمة في " مختصر المختصر " . والطحاوي في " شرح الآثار " : فكانوا يسرون " ببسم الله الرحمن الرحيم " . ورجال هذه الروايات كلهم ثقات مخرج لهم في " الصحيحين " .
ولحديث أنس طرق أخرى دون ذلك في الصحة وفيها ما لا يحتج به وفيما ذكرناه كفاية وكل ألفاظه ترجع إلى معنى واحد يصدق بعضها بعض وهي سبعة ألفاظ : - فالأول : ( 8 ) كانوا لا يستفتحون القراءة " ببسم الله الرحمن الرحيم " . والثاني : ( 9 ) فلم أسمع أحدا يقول أو يقرأ : " بسم الله الرحمن الرحيم " . والثالث ( 10 ) : فلم يكونوا يقرؤون " بسم الله الرحمن الرحيم " : والرابع ( 11 ) : فلم أسمع أحدا منهم يجهر " ببسم الله الرحمن الرحيم " . والخامس ( 12 ) : فكانوا لا يجهرون " ببسم الله الرحمن الرحيم " . والسادس ( 13 ) : فكانوا يسرون " ببسم الله الرحمن الرحيم " . والسابع ( 14 ) : فكانوا يستفتحون القرآن " بالحمد لله رب العالمين " وهذا اللفظ هو الذي صححه الخطيب وضعف ما سواه لرواية الحفاظ له عن قتادة ولمتابعة غير قتادة له عن أنس فيه وجعله اللفظ المحكم عن أنس وجعل غيره متشابها وحمله على الافتتاح بالسورة لا بالآية وهو غير مخالف للألفاظ المنافية بوجه فكيف يجعل مناقضا لها ؟ فإن حقيقة هذا اللفظ الافتتاح بالآية من غير ذكر التسمية جهرا أو سرا فكيف يجوز العدول عنه بغير موجب ؟ ويؤكده قوله في رواية مسلم : لا يذكرون " بسم الله الرحمن الرحيم " . في أول قراءة ولا في آخرها لكنه محمول على نفي الجهر لأن أنسا إنما ينفي ما يمكنه العلم بانتفائه فإنه إذا لم يسمع مع القرب علم أنهم لم يجهروا وأما كون الإمام لم يقرأها فهذا لا يمكن إدراكه إلا إذا لم يكن بين التكبير والقراءة سكوت يمكن فيه القراءة سرا ولهذا استدل بحديث أنس هذا على عدم قراءتها من لم ير هنا سكوتا كمالك . وغيره لكن ثبت في " الصحيحين ( 15 ) " عن أبي هريرة أنه قال : يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول ؟ قال : أقول : كذا وكذا إلى آخره وفي " السنن ( 16 ) " عن سمرة . وأبي . وغيرهما أنه كان يسكت قبل القراءة وأنه كان يستعيذ وإذا كان له سكوت لم يمكن أنسا أن ينفي قراءتها في ذلك السكوت فيكون نفيه للذكر . والاستفتاح . والسماع مرادا به الجهر بذلك يدل عليه قوله : فكانوا لا يجهرون وقوله : فلم أسمع أحدا منهم يجهر ولا تعرض فيه للقراءة سرا ولا على نفيها إذ لا علم لأنس بها حتى يثبتها أو ينفيها وكذلك قال لمن سأله ( 17 ) : إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه ( 18 ) فإن العلم بالقراءة السرية إنما يحصل بإخبار أو سماع عن قرب وليس في الحديث شيء منهما ورواية من روى : فكانوا يسرون ( 19 ) كأنها مروية بالمعنى من لفظ لا يجهرون والله أعلم وأيضا فحمل الافتتاح " بالحمد لله رب العالمين " على السورة لا الآية مما تستبعده القريحة وتمجه الأفهام الصحيحة لأن هذا من العلم الظاهر الذي يعرفه العام والخاص كما يعلمون أن الفجر ركعتان . وأن الظهر أربع . وأن الركوع قبل السجود . والتشهد بعد الجلوس إلى غير ذلك فليس في نقل مثل هذا فائدة فكيف يجوز أن يظن أن أنسا قصد تعريفهم بهذا وأنهم سألوه عنه وإنما مثل هذا مثل من يقول : فكانوا يركعون قبل السجود أو فكانوا يجهرون في العشاءين والفجر ويخافتون في صلاة الظهر والعصر والله أعلم وأيضا فلو أريد الافتتاح " بسورة الحمد " لقيل : كانوا يفتتحون القراءة بأم القرآن . أو بفاتحة الكتاب أو بسورة الحمد هذا هو المعروف في تسميتها عندهم وأما تسميتها " بالحمد لله رب العالمين " فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلّم . ولا عن الصحابة والتابعين . ولا عن أحد يحتج بقوله وأما تسميتها " بالحمد " فقط فعرف متأخر يقولن : فلان قرأ " الحمد " وأين هذا من قوله : فكانوا يستفتحون القراءة " بالحمد لله رب العالمين " ؟ فإن هذا لا يجوز أن يراد به السورة إلا بدليل صحيح وأنى للمخالف ذلك ؟ فإن قيل : فقد روى الوليد بن مسلم ( 20 ) عن الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس الاستفتاح بأم القرآن وهذا يدل على إرادة السورة قلنا : هذا مروي بالمعنى والصحيح عن الأوزاعي ما رواه مسلم عن الوليد بن مسلم عنه عن قتادة عن أنس قال : صليت خلف أبي بكر . وعمر . وعثمان فكانوا يستفتحون " بالحمد لله رب العالمين " لا يذكرون " بسم الله الرحمن الرحيم " في أول قراءة ولا في آخرها ثم أخرجه مسلم عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يذكر ذلك هكذا رواه مسلم في " صحيحه " عاطفا له على حديث قتادة وهذا اللفظ المخرج في " الصحيح " هو الثابت عن الأوزاعي واللفظ الآخر : إن كان محفوظا فهو مروي بالمعنى فيجب حمله على الافتتاح بأم القرآن رواه الطبراني في " معجمه " بهذا الإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلّم . وأبا بكر . وعمر . وعثمان كانوا لا يجهرون " ببسم الله الرحمن الرحيم " .
( يتبع ... )