وتحققوا أن من قدر على ما ذكر من الإنشاء بلا مثال يحتذيه أو قانون ينتحيه وأتصف بالقدرة الشاملة والحكمة الكاملة كان على إعادة من نطقت الكتب السماوية بإعادته أقدر وإن ذلك ليس إلا لحكمة باهرة هي جزاء المكلفين بحسب إستحقاقهم المنوط بأعمالهم القلبية والقالبية طلبوا النجاة مما يحيق بالمقصرين ويليق بالمخلين فقالوا : فقنا عذاب النار 191 أي فوفقنا للعمل بما فهمنا من الدلالة ومن هنا قيل : إن الفاء لترتب الدعاء بالإستعاذة من النار على ما دل عليه ربنا ما خلقت هذا باطلا من وجوب الطاعة وإجتناب المعصية كأنه قيل : فنحن نطيعك فقنا عذاب النار التي هي جزاء من عصاك و سبحانك مصدر منصوب بفعل محذوف والجملة معترضة لتقوية الكلام وتأكيده ولا ينافي ذلك كونها مؤكدة لنفي العبث عن خلقه .
وبعضهم قال : بهذا التأكيد ولم يقل بالإعتراض وجعل ما بعد الفاء مترتبا على اتنزيه المدلول عليه بسبحانك وأدعى أنه الأظهر لإندراج تنزهه تعالى عن رد سؤال الخاضعين الملتجئين إليه فيه ولا يخفى تفرع المسألة على التنزيه عن خيبة رجاء الراجين وقيل : إنه جواب شرط مقدر وأن التقدير إذا نزهناك أو وحدناك فقنا عذاب النار الذي هو جزاء الذين لم ينزهوا أو لم يوحدوا وأستدل الطبرسي بالآية على أن الكفر والضلال والقبائح ليست خلقا لله تعالى لأن هذه الأشياء كلها باطلة بالإجماع وقد نفى الله سبحانه ذلك حكاية عن أولى الألباب الذين رضى قولهم بأنه لا باطل فيما خلقه سبحانه فيجب بذلك القطع بأن القبائح كلها ليست مضافة إليه عز شأنه ومنفية عنه خلقا وإيجاداوفيه نظرلأن الأشياء كلها سواء من حيث أنها خلق الله تعالى ومشتملة على المصالح والحكم كما ينبيء عن ذلك قوله تعالى : أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وتفاوتها إنما هو بإعتبار نسبة بعضها إلى بعض وكون بعضها متعلق الأمر والبعض الآخر متعلق النهي مثلا لا بإعتبار كون البعض مشتملا على الحكمة والبعض الآخر عاريا عنها فالقبائح من حيث أنها خلق الله تعالى ليست باطلة لأن الباطل كما علمت هو مالا فائدة فيه مطلقا أو مالا فائدة فيه يعتد بها أو مالا يقصد به فائدة وهي ليست كذلك لإشتمالها في أنفسها على الحكم والفوائد الجمة التي لا يبعد قصد الله تعالى لها مع غناه الذاتي عنها ولا يشترط كون تلك الفوائد لمن صدرت على يده وإلا لزم خلو كثير من مخلوقاته تعالى عن الفوائد وتسميتها قبائح إنما هي بإعتبار كونها متعلق النهي لحكمة أيضا وهو لا يستدعي كونها خالية عن الحكمة بل قصارى ذلك أنه يستلزم عدم رضاه سبحانه بها شرعا المستدعي ذلك للعقاب عليها بسبب أن إفاضتها كانت حسب الإستعداد الأزلي فدعوىأن هذه الأشياء كلها باطلةباطلة كدعوى الإجماع على ذلك وكأن القائل لم يفهم معنى الباطل فقال ما قال وأستدل بها بعضهم أيضا على أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض وهو مبني ظاهرا على أن الباطل العبث بالمعنى الثالث وقد علمت أن معنى العبث ليس محصورا فيه وبفرض الحصر لا بأس بهذا القول على ما ذهب كثير من المحققين لكن مع القول بالغنى الذاتي وعدم الإستكمال بالغير كما أشرنا إليه في البقرة وأحتج حكماء الإسلام بها على أنه سبحانه وتعالى خلق الأفلاك والكواكب وأودع فيها قوى مخصوصة وجعلها بحيث يحصل من حركاتها وإتصال بعضها ببعض مصالح في هذا العالم لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة ولا يمكن أن تقصر منافعها على الإستدلال بها على الصانع فقط لأن كل ذرة من ذرات الماء والهواء يشاركها في ذلك فلا تبقى لخصوصياتها فائدة وهو خلاف النص وناقشهم المتكلمون في ذلك بأنه يجوز أن تكون الفلكيات أسبابا عادية للأرضيات لا حقيقية وأن التأثير عندها لا بها ويكفي ذلك فائدة لخلقها