فأستغفروا أي طلبوا المغفرة منه تعالى لذنوبهم كيفما كانت ومفعول فأستغفروا محذوف لفهم لمعنى أي أستغفروه وليس المراد مجرد طلب المغفرة بل مع التوبة وإلا فطلب المغفرة مع الإصرار كالإستهزاء بالرب جل شأنه ومن هنا قالت رابعة العدوية : إستغفارنا هذا يحتاج إلى إستغفار ومن يغفر الذنوب إلا الله إعتراض بين المعطوفين أو بين الحال وذيها والتركيب على ما أفاده بعض المحققين يدل على أمور من جهة الله تعالى وأمور من جهة العبد .
أما الأول فعلى وجوه : أحدها دلالة أسم الذات بحسب ما يقتضيه المقام من معنى الغفران الواسع وإيراد التركيب على صيغة الإنشاء دون الأخبار بأن لم يقل وما يغفر الذنوب إلا الله تقرير لذلك المعنى وتأكيد له كأنه قيل : هل تعرفون أحدا يقدر على غفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها سالفها وغابرها غير من وسعت رحمته كل شيء وثانيها تقديمه عن مكانه وإزالته عن مقره لأنه إعتراض بين المبتدأ وهو الذين والخبر الآتي ثم بين المعطوف والمعطوف عليه أو الحال وصاحبه للدلالة على شدة الإهتمام به والتنبيه على أنه كلما وجد الإستغفار لم يتخلف الغفران وثالثها الإتيان بالجمع المحلي باللام إعلاما بأن التائب إذا تقدم بالإستغفار يتلقى بغفران ذنوبه كلها فيصير كمن لا ذنب له ورابعها دلالة النفي بالحصر والإثبات على أنه لا مفزع للمذنبين إلا كرمه وفضله وذلك أن من وسعت رحمته كل شيء لا يشاركه أحد في نشرها كرما وفضلا وخامسها إسناد غفران الذنوب إلى نفسه سبحانه وإثباته لذاته المقدس بعد وجود الإستغفار وتنصل عبيده يدل على تحقق ذلك قطعا إما بحسب الوعد كما نقول أو بحسب العدل كما يزعمه المعتزلة .
وأما الثاني فيه وجوه أيضا : الأول إن في إبداء سعة الرحمة وإستعجال المغفرة بشارة عظيمة وتطييبا للنفوس والثاني أن العبد إذا نظر إلى هذه العناية الشديدة والإهتمام العظيم في شأن التوبة يتحرك نشاطه ويهتز عطفه فلا يتقاعد عنها والثالث أن في ضمن معنى الإستغراق قلع اليأس والقنوط ولهذا علل سبحانه النهي في قوله تعالى : لا تقنطوا من رحمة الله بقوله جل شأنه : إن اله يغفر الذنوب جميعا والرابع أنه أطلقت الذنوب وعمت بعد ذكر الفاحشة وظلم النفس وترك مقتضى الظاهر ليدل به على عدم المبالاة في الغفران فإن الذنوب وإن كبرت فعفو الله تعالى أكبر والخامس أن الأسم الجامع في التركيب كما دل على سعة الغفران بحسب المقام يدل أيضا مع إرادة الحصر على أنه تعالى وحده معه مصححات المغفرة من كونه عزيزا ليس فوقه أحد فيرد عليه حكمه وكونه حكيما يغفر لمن تقتضي حكمته غفرانه .
وقد ألتزم بعضهم كونألفي الدنوب للجنس لتفيد الآية إمتناع صدور مغفرة فرد منها من غيره تعالى وهذا على ظنه لا تفيده الآية على تقدير إرادة كل الذنوب وحينئذ يزداد أمر المبالغة وأما جعل الجملة حالية بتقدير قائلين ذلك فتعسف يذهب بكثير من هذه الوجوه اللطيفة كما لا يخفى و من مبتدأ ويغفر خبره والأسم الجليل بدل من المستكن في يغفر أو فاعل له ولم يصروا على ما فعلوا عطف على فأستغفروا أو حال من فاعله أي لم يقيموا أو غير مقيمين على الذي فعلوه من الذنوب فاحشة كانت أو ظلما أو على فعلهم وأصل الإصرار الشد من الصر وقيل : الثبات على الشيء ومنه قول الحطيئة يصف الخيل .
عوابس بالشعث الكماة إذا أبتغوا غلالتها بالمحصدات أصرت ويستعمل شرعا بمعنى الإقامة على القبيح من غير إستغفار ورجوع بالتوبة والظاهر أنه لا يصح إرادة هذا