وأكثر ما يعلل به التعذيب الأخروي نعم حمله على التعذيب الدنيوي أوفق بالمعنى الذي ذكره الفراء وإبن الأنباري لأن التشفي في الغالب إنما يكون في الدنيا ونظم التوبة والتعذيب الأخروي في سلك العلة الغائية للنصر المترتبة عليه في الوجود من حيث أن قبول توبتهم فرع تحققها الناشيء من علمهم بحقية الإسلام بسبب غلبة أهله المترتبة على النصر الذي هو من الآيات الغر المحجلة وأن تعذيبهم المذكور شيء مسبب على إصرارهم على الكفر بعد تبين الحق على الوجه المذكور كما ينبيء عن ذلك قوله تعالى : ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن فسر بالأسر مثلا كان أمر التسبب مكشوفا لا مرية فيه وأستشكلت هذه الآية بناءا على أنها تدل على ما في بعض الروايات على أنه كان فعل فعلا ومنع منه بأنه إن كان ذلك الفعل من الله تعالى فكيف منعه منه وإن لم يكن فهو قادح بالعصمة ومناف لقوله تعالى : وما ينطق عن الهوى وأجيب بأن ما وقع كان من باب خلاف الأولى نظرا إلى منصبه والنهي المفهوم من الكلام من باب الإرشاد إلى إختيار الأفضل ولا يعد ذلك من الهوى في شيء بناءا على القول بأنه يصح للنبي أن يجتهد ويعمل بما أدى إليه إجتهاده المأذون به .
وجوز أن يكون ذلك الفعل نفسه عن وحي وإذن من الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم به وأن النهي عن ذلك كان نسخا لذلك الأذن وأياما كان لا ينافي العصمة الثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فأفهم .
ولله ما في السموات وما في الأرض كلام مستأنف سيق لبيان إختصاص مكلية جميع الكائنات به تعالى إثر بيان إختصاص طرف من ذلك من ذلك به عز شأنه تقريرا لما سبق وتكملة الخبر للقصر وما عامة للعقلاء وغيرهم تغليبا أي له سبحانه ما في هذين النوعين أو ما في هاتين الجهتين ملكا وملكا وخلقا وإقتدارا لا مدخل لأحد معه في ذلك فالأمر كله له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد يغفر لمن يشاء أن يغفر له من المؤمنين فلا يعاقبه على ذنبه فضلا منه ويعذب من يشاء أن يعذبه عدلا منه وإيثار كلمة من في الموضعين لإختصاص المغفرة والتعذيب بالعقلاء وتقديم المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمته تعالى على غضبه .
وظاهر الآية يدل على أن مغفرة الله تعالى وتعذيبه غير مقيدين بشيء بل قد يدعى أن التقييد مناف للسوق إذ هو لإثبات أنه سبحانه المالك على الإطلاق فله أن يفعل ما يشاء لا مانع له من مشيئته ولو كانت مغفرته مقيدة بالتوبة وتعذيبه بالظلم لم يكن فاعلا لما يشاء بل لما تستدعيه التوبة أو الظلم فالآية ظاهرة في نفي الوجوب على الله تعالى وأنه يجوز أن يغفر سبحانه للمذنب ويعذب المصلحوهو مذهب الجماعةوذهب المعتزلة إلى أن المغفرة مشروطة بالتوبة فمن لم يتب لا يجوز أن يغفر له أصلا وتمسكوا في ذلك بوجهين : الأول الآيات والأحاديث الناطقة بوعيد العصاة الثاني أن المذنب إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له وإغراءا للغير عليه وهذا ينافي حكمة إرسال الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم وحملوا هذه الآية على التقييد وخصوا أمثالها من المطلقات بالصغائر أو الكبائر المقرونة بالتوبة وقالوا : إن المراد يغفر لمن يشاء إذا تاب وجعلوا القرينة على ذلك أنه تعالى عقب قوله سبحانه : أؤ يعذبهم بقوله جل شأنه : فإنهم ظالمون وهو دليل على أن الظلم هو السبب الموجب فلا تعذيب بدونه ولا مغفرة مع وجوده فهو مفسر لمن يشاء وأيدوا كون المراد ذلك بما روى عن الحسن في الآية يغفر لمن يشاء بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين ويعذب من يشاء ولا يشاء أن يعذب إلا للمستوجبين وبما روى عن عطاء يغفر لمن يتوب عليه ويعذب من لقيه ظالما والجماعة