على خبر صحيح يقتضيه خلاف الظاهر في الآية جدا لأن الخطاب في ألم تر عام ولا يتأتى العموم في رؤية ذلك وكأنه يتعين عليه جعل الخطاب خاصا بسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلّم والمراد ألم تعلم ذلك بالوحي ومع ذلك لا يخفى حال الآية على ما ذكر وقريب مما قيل ما حكاه الزمخشري في الآية عن بعض من أن كل ماء في الآض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله تعالى بين البقاع هذا لكن يعكر على ما اخرناه ظاهر ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية : ليس في الأرض ماء إلا ما أنزال الله تعالى من السماء ولكن عروق في الأرض تغيره فمن سره أن يعود الملح عذبا فليصعد وأخرج نحوه عن سعيد بن جبير والشعبي فإن صح هذا الخبر وقلنا إنه في حكم المرفوع فما علينا إذا قلنا بظاهره فالعقل لا يأباه والله تعالى على كل شيء قدير هذا وجوز أن تكون الينابيع جمع ينبوع بمعنى النابع فإنه كما يطلق على المنبع يطلق على ما ذكر وحينئذ تكون منصوبة على الحال والمعنى فسلكه مياها نابعة في الأرض ولا يخلو من الكدر لأنه لو قصد هذا كان الظاهر أن يقال من الأرض وعلى ما هو المشهور يكون ينابيع منصوبا بنزع الخافض كما أشرنا إليه .
واحتمال كونه منصوبا على المصدرية في إطلاقيه بأن يكون الأصل فسلكه سلوكا في ينابيع أي مجازي فحذف المصدر وأقيم ما هو في موضع الصفة مقامه أو يكون الأصل فسلكه سلوك ينابيع أي مياه نابعة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه بعيد كما لا يخفى .
ثم يخرج به أي بواسطته مراعاة للحكمة لا لتوقف الإخراج عليه في نفس الأمر وقالت الشاعرة : أي يخرج عنده بلا مدخلية له بوجه من الوجوه سوى المقارنة زرعا مختلفا ألوانه أي أنواعه وأصنافه من بر وشعير وغيرهما أو كيفياته المدركة بالبصر من خضرة وحمرة وغيرهما أو كيفياته مطلقا من الألوان والطعوم وغيرهما على ما قيل وشمل الزرع المقتات وغيره وثم للتراخي في الرتبة أو الزمان وصيغة المضارع لا ستحضار الصورة ثم يهيج ييبس وظاهر كلام أهل اللغة أن هذا معنى حقيقي للهيجان ويفهم من كلام بعض المفسرين أن يهيج بمعنى يثور واستعماله بمعنى ييبس من مجاز المشارقة لأن الزرع إذا يبس وتم جفافه يشرف على أن يثور ويذهب من منابته فتراه مصفرا من بعد خضرته ونضارته وقريء مصفارا ثم يجعله خطاما فتاتا متكسرا كأن لم يغن بالأمس ولكون هذه الحالة من الآثار القوية علقت بجعل الله تعالى كالإخراج وقرأ أبو بشر ثم يجعله بالنصب قال صاحب الكامل وهو ضعيف ولم يبين وجه النصب وكأنه إضمار أن كما في قوله .
إني وقتلي سليكا ثم أعقله ولا يخفى وجه ضعفه هنا إن في ذلك إشارة إلى ما ذكر تفصيلا وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الغرابة والدلالة على ما قصد بيانه لذكرى لتذكيرا عظيما لأولي الألباب .
21 .
- لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وتنبيها لهم على حقيقة الحال يتذكرون بذلك حال الحياة الدنيا وسرعة تقضيها فلا يغترون ببهجتها ولا يفتنون بفتنها أو يجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء والتصرف به على أتم وجه قادر على إجراء الأنهار من تحت تلك الغرف وكأن الأول أولى ليكون ما تقدم ترغيبا في الآخرة وهذا تنفيرا عن الدنيا وقيل المعنى إن في ذلك لتذكيرا وتنبيها على أنه لا بد لذلك من صانع حكيم وأنه كائن على تقدير وتدبير لا عن تعطيل وإهمال بمعزل عما يقتضيه