قربة في شرع من قبلنا فتردد القفال في الجواز وعدمه ناشيء من قلة الإطلاع وفي بعض الآثار ما يدل ظاهره على أن نذر الصمت كان من مريم عليها السلام خاصة فقد أخرج ابن أبي حاتم عن حارثة بن مضرب قال : كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم ما لصاحبك لم يسلم قال : إنه نذر صوما لا يكلم اليوم إنسيا فقال له ابن مسعود : بئس ما قلت إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا فكلم وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإنه خير لك والظاهر على المعنى الأخير للصوم أنه باعتبار الصمت فيه فرع قوله تعالى فلن أكلم اليوم أنسيا 62 أي بعد أن أخبرتكم بنذري فتكون قد نذرت إن لا تتكلم إنسيا بغير هذا الإخبار فلا يكون مبطلا له لأنه ليس بمنذور ويحتمل أن هذا تفسير للنذر بذكر صيغته وقال فرقة : أمرت أن تخبر بنذرها بالإشارة قيل : وهو الأظهر قال الفراء : العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام ويفهم من قوله تعالى أنسيا دون أحدا أن المراد فلن أكلم اليوم أنسيا وإنما أكلم الملك وأناجي ربي وإنما أمرت عليها السلام بذلك على ما قاله غير واحد لكراهة مجادلة السفهاء والاكتفاء بعيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن فأتت بها قومها تحمله أي جاءتهم مع ولدها حاملة إياه على أن الباء للمصاحبة ولو جعلت للتعدية صح أيضا والجملة في موضع الحال من ضمير مريم أو من ضمير ولدها وكان هذا المجيء على ما أخرج سعيد بن منصور وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها قيل : إنها حنت إلى الوطن وعلمت أن ستكفي أمرها فأتت به فلما دخلت عليهم تباكوا وقيل : هموا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السلام وجاء في رواية عن الحبر أنها لما انتبذت من أهلها وراء الجبل فقدوها من محرابها فسألوا يوسف عنها فقال : لا علم لي بها وإن مفتاح باب محرابها عند زكريا فطلبوا زكريا وفتحوا الباب فلم يجدوها فاتهموه فأخذوه ووبخوه فقال رجل : إني رأيتها في موضع كذا فخرجوا في طلبها فسمعوا صوت عقعق في رأس الجذع الذي هي من تحته فانطلقوا إليه فلما رأتهم قد أقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به ثم كان ما كان فظاهر الآية والأخبار أنها جاءتهم به من غير طلب منهم وقيل : أرسلوا إليها لتحضري إلينا بولدك وكان الشيطان قد أخبرهم بولادتها فحضرت إليهم به فلما رأوهما قالوا يا مريم لقد جئت فعلت شيئا فريا 72 قال قتادة : عظيما وقيل : عجيبا وأصله من فرى الجلد قطعه على وجه الإصلاح أو الإفساد وقيل : من أفراه كذلك واختير الأول لأن فعيلا إنما يصاغ قياسا من الثلاثي وعدم التفرقة بينه وبين المزيد في المعنى هو الذي ذهب إليه صاحب القاموس .
وفي الصحاح عن الكسائي أن الفرى القطع على وجه الإصلاح والإفراء على وجه الإفساد وعن الراغب مثل ذلك وقيل الإفراء عام وأيا ما كان فقد استعير الفرى لما ذكر في تفسيره وفي البحر أنه يستعمل في العظيم من الأمر شرا أو خيرا قولا أو فعلا ومنه في وصف عمر رضي الله تعالى عنه فلم أر عبقريا يفري فريه وفي المثل جاء يفري الفرى ونصب شيئا على أنه مفعول به وقيل على أنه مفعول مطلق أي لقد جئت مجيئا عجيبا وعبر عنه بالشيء تحقيقا للإستغراب